الحمد للَّـه فاتحة كل خير، وتمام كل نعمة، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمَّدٍ أفصح العرب، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، فهذا بحثٌ بعنوان «الإحالة في القرآن الكريم .. دراسة نحويَّة نصِّيَّة»، يقع في إطار العلاقة بين النّصِّ والقاعدة، ومعلومٌ أنَّ صلةَ القرآن الكريم بالدّرس اللغوي العربي بمستوياته المختلفة صلةٌ ظاهرةٌ قويةٌ، كما يتَّضِح من تصفُّح نتاج هذا الدّرس منذ بداياته التي سجَّلت دوره في النّشأة، وإلى وقتنا هذا.
وقد كان لهذه الصلة جانبان؛ الأول: هو النظر في القرآن الكريم بهدف استنباط قواعدَ وأحكامٍ عامّة للعربية (نحوية وبلاغية ولغوية)، أو خاصة به (أسلوبية)، والثاني: هو استخدام هذه القواعد في فهم القرآن الكريم والاستعانة بها في إدراك إعجازه، وقد تجلَّى الجانب الأول ـ على المستوى النحويّ مثلًا ـ في الكتب التي تتناول أبواب النحو ومسائلَهُ، كما تجلَّى الجانب الثاني في كتب إعراب القرآن وتوجيه قراءاته وكتب التفسير التي عُنيت بالنَّحو.
وتأتي أهمية هذه الدراسة من أنها تقوم على رصد ظاهرةٍ لغويةٍ نصِّيةٍ، وتحليل عناصرها، وبيان آثارها، في حدود القرآن الكريم. وهي ظاهرة لم تأخذ حظّها من الاستقلال ـ على أهميتها ـ في الدّرس اللُّغوي العربِي، فقد كَثُرَ تناوُلُها في الدِّراسات المعاصرة بوصفها جزءًا من ظاهرةٍ أعمَّ هي ظاهرة الرّبط، ولاشك أن العلاقة قائمةٌ بين الظاهرتين، لكنّ هذا أدى إلى إغفال بعض آثارها في فهم النّص وتأويله.
أما في الدراسات القديمة فلم تُعْطَ تصوُّرًا شاملًا يكشف عن عناصرها وعلاقاتها بشكل محدَّد، وإن كانت جميع خيوط هذا التَّصور تكاد تكون ماثلةً في تلك الدراسات، وهذا ما شكّل دافع الدّراسة عسى أن تقوم بسدِّ تلك الثغرة.
ولقد كان أمام دراسة هذه الظاهرة صعوبتان أساسيّتان كان عليها تخطِّيهما لمواصلة سيرها؛ أولاهما: تتعلق بضبط مفهوم مصطلح الإحالة نفسِه، إذ كان لابدَّ من إزالة كل غموض شاب استعمال هذا المصطلح في الدرسات النصّيَّة حتى تكون الظاهرة التي ينطبق عليها واضحةَ العناصر والعلاقات الكلية، وقد استغرق تجاوز هذه العقبة وقتًا غير قليل من فترة الدراسة، حتى تَكَشَّفَ الأمرُ عَنْ عدة مفاهيم متباينة ومتداخلة في الوقت نفسه لهذا المصطلح، وكان من الضروري حيال ذلك تحديد مفهوم متميز تقوم عليه الدراسة التحليلية في القرآن الكريم، وكان هذا المفهوم هو مفهومَ الإحالة العهدية الذي قدّم البحث مبررات اختياره له في موضعه.
أما الصعوبة الثانية فتمثلت في جديلةٍ من كثرة جزئيات الظاهرة من عناصر وعلاقات فرعية مع اتساع مجال التطبيق، فعلى الرغم مما يبدو من أنَّ القرآن الكريم يمثل مادةَ بحثٍ محصورة سلفًا فإنَّ ظاهرة الإحالة محلَّ البحث لا تكاد آيةٌ من آياته الكريمة تخلو منها، ومعنى هذا أن استعمال الاستقراء التام في الدراسة سيؤدي إلى تطاول الدراسة كمًّا وزمنًا، ومن ثمَّ كان التغلُّب على هذه الصعوبة باللُّجوء إلى الاستقراء الناقص.
وهذا يسلمنا إلى الحديث عن منهج البحث الذي اتبعْتُه في الدراسة النصيّة، وهو منهج تحليليّ يعتمد على الاستقراء الناقص ـ كما ذكرت ـ لاستخلاص أنماط الإحالة وعلاقاتها وتحديد آثارها. ويشير العنوان الفرعي لهذا البحث (دراسة نحوية نصيّة) إلى اعتماده في تحليله لعملية الإحالة في القرآن الكريم على معطيات «نحو النص» التي يمكن بلورة أهم محاورها في النقاط التالية:
1- وَصْلُ النصِّ اللغوي بالمقام.
2- الاهتمام ببيان عناصر الترابط والتماسك بين أجزاء النص.
3- السعي إلى فهم النص وتفسيره استنادًا إلى مقولات لغوية بالإضافة إلى مقولات غير لغوية، وما يرتبط بذلك من مشكلات مثل دور القارئ في تحديد المعنى.
4- تفسير عناصر النص في إطار وحدة كلية له، فدلالة المفردات والجمل خارج النص ليست هي بالضبط دلالتها داخله.
وتجدر هنا الإشارة إلى ثلاثة أمور:
أحدها: أنَّ الاستفادة من نحو النص لا يلغي الاعتماد على معطيات نحو الجملة إذ إنه من المقرر أنَّ «نحو الجملة يشكل جزءًا جوهريًّا من نحو النص»( ).
والثاني: أنَّ الانطلاق من معطيات نحو النص لا يعني إيثار النتاج الغربي فيه، بل المراد اعتماد القوالب الفكرية التي يتناولها هذا العلم، بغض النظر عن المادة (أي الآراء والتحليلات) أهي غربية أم عربية، تراثية أم محدثة، وذلك مراعاة لخصوصية النص القرآني من جهة، وإبرازًا للجهود العربية في هذا المضمار من جهة أخرى.
وأمَّا الثالث فهو أنَّ رعاية الأمر السابق قد أدَّت طبعيًّا إلى اتساع المجال المرجعي لهذه الدراسة، بمعنى تداخل الاختصاصات ـ كما عبر فان دايك ـ التي رفدت النظرَ والتحليلَ فيها، فبرز فيها الرجوع إلى كتب التفسير، وأصول الفقه، والمنطق، إلى جانب كتب النحو، والبلاغة العربية، وعلم الدلالة، فضلًاعن علم النص، ولا تعنى الاستفادة بالمجالات غير اللغوية غيابَ هُوِيَّةِ البحث بوصفه بحثًا لغويًّا نصيًّا؛ لأنَّ محور النظر الذي استقطب آراءً مختلفة المنابت هو الظاهرةُ اللغوية، فليست تلك الآراء خارجةً عن النظر اللغوي، وأرجو ألَّا أكون مغاليًا إنْ قلتُ: إنَّ الدرس اللغويَّ العربي في التراث ينبغي أنْ تتسع النظرة إليه لتشمل طرفًا من علمي الأصول والمنطق على المستوى النظري، والتفسيرَ وشروحَ الحديث على المستوى التطبيقي، فهي مجالات ثرية بالنظر اللغوي، وإنْ كانت تتغيَّا غاياتٍ أبعدَ مِنَ الأحكام اللغوية، وأنَّ العقلية التي أثمرتْ في هذه المجالات لم تكن منبتةَ الصلة عن العقلية التي أثمرتْ في علوم اللغة من نحو وبلاغة وفقه لغة، بل كانت ملتحمةً معها بصورةٍ ما.
وقد كان من أهم كتب التفسير التي اعتمدْتُ عليها روح المعاني لمحمود شكري الآلوسي، والتحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور، وذلك لعنايتهما بتفسير الألفاظ المحيلة وتتبع استعمالاتها والإشارة إلى أسرارها، خاصَّةً الثاني، ومن الدراسات النصية النص والخطاب والإجراء لدي بوجراند، وتحليل الخطاب لبراون ويول، وعلم النص مدخل متداخل الاختصاصات لفان دايك، ودراسة هاليداي ورقية حسن حول السبك في الإنجليزية، ومدخل إلى علم النص لزتسيسلاف ووارزنياك، إلى غير ذلك مما يرد في قائمة المصادر والمراجع.
أمَّا الدراسات السابقة المتعلقة بموضوع الإحالة في القرآن الكريم خصوصًا فأهمُّها بحث الدكتور سعيد بحيري بعنوان (من أشكال الربط في القرآن الكريم .. تضافر العناصر الإشارية والعناصر الإحالية في تماسك النص)( )، وهو جهد مشكور وخطوة على الطريق، لكنه اقتصر ـ وفقًا لرؤيته ـ على بعض المحيلات وهي: ضمير الذات، وضمير الشأن، وضمير الفصل، وضمير الإشارة، في حين تناولت دراستنا هذه إلى ذلك الإحالةَ بالاسم الموصول والمعرف بأل وبالإضافة والعلم.
كما أنَّه انطلق في تناول الإحالة من كونها وسيلةً للربط، في حين تجاوزت هذه الدراسةُ تلك النظرةَ فتناولت الإحالة على أنها ظاهرة مستقلة تتعالق بظواهر أخرى من أهمها الربط.
كما أنَّ الصورَ التي صاغها ذلك البحثُ لبنية الإحالة جاءت مركبةً مِنْ علاقتين تركيبيتين إحداهما إحالية والأخرى غير إحالية؛ أمَّا هذه الدراسة فقد انطلقت من الفصل بين القرينة والمحيل فجاءت كل العلاقات التركيبية غير الإحالية التي لها تأثير في الإحالة تحت القرينة، وبذلك تحددت الجهة الجامعة لها التي لأجلها كان لها وظيفة في عملية الإحالة، وأهمَلَتْ من تلك العلاقات التركيبية ما لا تأثير له في الإحالة.
وقد جاءت هذه الدراسة في مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب.
فأما المقدمة فأعرض فيها لأهمية البحث وصعوبات الدراسة ومنهج البحث وأهم الدراسات السابقة وعرض فصول البحث.
وأما التمهيد فتناولت فيه مصطلح الإحالة من حيث معناه اللغوي، واستعماله في الدرس اللغوي المعاصر، ومورده من اللغات الأوروبية.
وأما الباب الأول فجاء بعنوان (الإحالة وإشكال المفهوم)، وتناولت فيه مفاهيم الإحالة التي عثرت عليها في الدراسات اللغوية، وجاء في ستة فصول:
الفصل الأول: تناول الإحالة التداولية وأعني بها إرجاعَ المتكلم المخاطبَ صراحةً أو ضمنًا إلى نصٍّ أو شخصٍ أو شيءٍ أو حدثٍ لأجل استيثاقه أو تمام الفائدة أو التذكيرأو بيان الاتساق.
الفصل الثاني: تناول الإحالة الماصدقية وأعني بها العلاقة بين الكلمة ومدلولها الخارجي.
الفصل الثالث: تناول الإحالة الافتقارية وهي علاقة دلالية بين عنصرين من عناصر الخطاب يتوقف تفسير أحدهما على الآخر.
الفصل الرابع: تناول الإحالة بمعنى إعادة الذكر.
الفصل الخامس: تناول الإحالة الكلامية وهو مفهوم ينبني على الإحالة الماصدقية ناظرًا إليها بوصفها سمة علاقية ذات أنواعٍ لكلِّ فعلٍ كلاميٍّ، وليست مجردَ علاقة.
الفصل السادس: انتهيت فيه إلى مفهوم إجرائي أسميته بالإحالة العهدية وهو مرتبط بالمفاهيم السابقة لا سيما الإحالة الافتقارية، والإحالة وفقًا له علاقة لغوية بين لفظ وضع ليستعمل في الدلالة على معهود، وذلك المعهود بواسطة قرينة العهد.
وأما الباب الثاني فتناولت فيه أنماط الإحالة في القرآن الكريم، وقد جاء في ثلاثة فصول استقل كل منها بنمط:
فجاء الفصل الأول بعنوان: إحالة العهد الحضوري، وتناولت فيه ضبطَ مفهوم الحضور، ثم صورَ الخطاب في القرآن الكريم وأثرَها على الإطار الحضوري له مقسمًا إياه إلى خطاب مباشر وخطاب محكي، ثم تحولَ العهد الحضوري في القرآن الكريم إلى العهد الذكري تارةً والذهني تارةً أخرى.
وجاء الفصل الثاني بعنوان: إحالة العهد الذكري، وقسمت فيه القرينة الذكرية إلى ملفوظة وملحوظة، والملفوظة إلى مفردة ومتعددة ومركبة، وبينت كيفية ارتباط المحيل بالملفوظ المفرد بوصفه قرينة للعهد فيه، ثم تحدثت عن صور امتداد القرينة لما لها من أثر في تشكيل المحال إليه، وانتقلت إلى الملفوظ المتعدد فبينت المراد منه وصوره، ثم أثر التعدد فيما يتحمله المحيل من القرينة، ثم تحدثت عن الملفوظ المركب مبينًا المراد منه وصورَه.
أمَّا القرينة الملحوظة فقد ذكرت أوَّلًا ضابطها، ثُمَّ تحدثت عن مسالك لحظ القرينة من المنطوق، وجمعتها في خمسة مسالك هي: دلالة التضمن، ودلالة الالتزام، وحمل ضمير الغيبة على ما سبق خطابه، وتجريد المعنى الكلي لعبارة مركبة، ولحظ العلاقات النحوية الدلالية. كل ذلك من خلال آيات القرآن الكريم.
وجاء الفصل الثالث بعنوان: إحالة العهد الذهني، وتناولت فيه أوَّلًا ضابط العهد الذهني، مناقشًا فكرة الفرق بينه وبين الذكري المتباعد، وتناولت ثانيًا روافد العهد الذهني لدى متلقي القرآن الكريم بعد زمن النزول، وقد تكشف منها ثلاثة؛ أوَّلُها أسباب النزول، وتحدثت تحت هذا الرافد عن مسألة عموم اللفظ وخصوص السبب لما لها من أثر في إثبات عملية الإحالة لبعض المعرفات ونفيها عنها. والرافد الثاني السِّيَر، وضربت بعض الأمثلة لما يتوقف في تعيينه على المعرفة بالسير، مبيِّنًا أنَّ أعلام الأنبياء الواردة في القرآن الكريم تندرج تحت هذا الرافد. والرافد الثالث السياق العام لنزول القرآن الكريم، وبينت فيه أبرزَ المحيلات التي يستعانُ بهذا الرافد على تعيينِ المحالِ إليه بها.
وأما الباب الثالث فتناولت فيه آثار الإحالة، وعلاقاتها النصية وجاء في ثلاثة فصول، هي: التعيين والربط والإجمال.
فأمَّا الفصل الأوَّل (التعيين) فقد حاولت فيه استخلاص العوامل التي يقوم عليها تحديد درجة تعيين العناصر المحيلة من خلال تحليل موضعين من القرآن الكريم أحدهما من سورة التحريم والآخر من سورة يوسف، وتوصلت إلى ستة عوامل، ثم انتقلت إلى الفكرة المقابلة للتعيين في الاستعمال القرآني وهي إهمال العهد، وبينت أنَّ لها مسلكين هما إهمال العهد المتحقق بالفعل، وإهمال العهد المتوقع.
وأمَّا الفصل الثاني (الربط) فقد تحدثت فيه أوَّلًا عن الربط الجُمْليِّ مركزًا على الربط بغير الضمير من المحيلات، ثم انتقلت إلى الربط النصِّيِّ فحددت موقع الإحالة العهدية من السبك والحبك، وعلاقتها بكل من التكرار والاستبدال بوصفهما من وسائل الربط النصيِّ أيضًا، وأعقبت ذلك بتحليل تطبيقي لسورة الدخان يبرز دور الإحالة العهدية في الربط النصي في القرآن الكريم.
وأمَّا الفصل الثالث (الإجمال) فقد تناولت فيه تحديد مفهوم الإجمال وهو بإيجاز تعدد احتمالات اللفظ مع التساوي، ثمَّ بينتُ كيف ينشأ هذا الإجمال في الكلام بسبب الإحالة، وتعرضت بعد ذلك لفكرة تردد الأوجه المحتملة بين كونها من أسباب الثراء الدلالي تارةً واحتياجها إلى مرجح لأحدها تارةً أخرى، وتناولت من المرجحات المطابقة والقرب واتحاد النسق والعموم.
وأخيرًا جاءت الخاتمة مستعرضة أهم نتائج البحث.
وأسأل اللَّـه عزَّ وجلَّ السداد والتوفيق في القول والعمل.
والحمد للَّـه أوَّلًا وآخرًا.
تامر أنيس