الثلاثاء، 17 يناير 2012

الاستصحاب في النحو العربي - المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، فهذا بحث بعنوان « الاستصحاب فى النحو العربى »، والاستصحاب كما عرّفه الأنبارى هو: « إبقاء حال اللفظ على ما يستحقه فى الأصل عند عدم دليل النقل عن الأصل »( ). والمراد بالنحو فى هذا البحث ما يشمل الصرف لا قسيمه، فهو على هذا علمٌ يُعْرَفُ به أحكام الكلم العربية إفرادًا وتركيبًا، أو هو انتحاء سمت كلام العرب فى تصرفه من إعراب وغيره.
والاستصحاب جزء من أصول النحو، وإنَّ لكل علمٍ أصولا لا يستقيم العلم إلا بها، وتوجد هذه الأصول فى عقول أصحاب هذا العلم، وتبرز من آنٍ لآخرَ فى عباراتهم عن مسائل علمهم، واستدلالاتهم على أحكامهم، وتعليلهم لظواهره ـ قبل أن يتاح لها مَنْ يستنبطها ويدونها مَجْمُوعةً فى نسقٍ مبتكر يؤسس به لعلم الجديد.
ولما كان علم النحو من العلوم التى تمثل ركنًا أساسيًا من أركان الثقافة العربية الإسلامية التى تأسست حول القرآن الكريم، وكان لهذا العلم من الأهداف ما جمعه الزجاجى فى « الوصول إلى التكلم بكلام العرب على الحقيقة صوابًا \غيرَ مُبَدَّل ولا مُغَيَّر، وتقويم كتاب الله عز وجل الذى هو أصل الدين والدنيا والمعتمد، ومعرفة أخبار النبى  وإقامة معانيها على الحقيقة؛ لأنه لا تفهم معانيها على صحة إلا بتوفيتها حقوقها من الإعراب »( ).
وكان فى النحو ـ باعتباره تحليلا وتقنينًا لبنية اللغة ـ من الصعوبات الواردة من طبيعة المادة المحللة كصعوبة استقرائها استقراءً كاملا، واختلاف وتعدد اللهجات المنسوبة إليها، أو الواردة من طبيعة عملية التحليل نفسها من حيث احتياجُها إلى قدرة عقلية خاصة على التجريد، واختلافُ عقول القائمين بهذه العملية.
أقول: لَمَّا كان النحو بهذه المنزلة قيمةً وصعوبةً كان البحث فى أصوله ضرورةً علميةً لتحقيق هذه القيمة، ومحاولةِ تذليل تلك الصعوبة؛ « إذ إن الأصول هى التى تشكل صورة الفروع، وتحدد لها علاقاتها، وتفسر سماتها، وأيَّةُ محاولةٍ للبدء بالفروع، أو لإغفال امتدادها عن أصولها محاولةٌ غيرُ موضوعيةٍ، ومن ثم غيرُ قادرةٍ على استكشاف أبعادِ الظواهرِ فضلا عن أنْ تستطيع إعادةَ تشكيلها »( ).
ولَمَّا كان أَهَمُّ الأصول النحوية السماعَ والقياسَ والاستصحابَ والإجماعَ، وكان كلٌّ من السماع والقياس قد حظى بكثير من الدراسات المعاصرة، دفعنى ذلك إلى اختيار أحد الأصلين الأخيرين لدرسه تفصيليًّا، وقد اخترت (الاستصحاب) لسببين:
الأول: انتماؤه إلى دائرة النظر العقلى، فى حين ينتمى الإجماع إلى دائرة النقل، ولا يخفى أنَّ النحو فى حقيقته معقول من منقول، فصفة الْمَعْقولِيَّةِ التى تتضمن النظر العقلى هى الوصف الاساسى للنحو، ويأتى قيد "من منقول" لتخصيص الوصف الأول وتوجيهه، فإذا أضيف إلى ذلك أن الإجماع نقلٌ عن أئمة النحو بالدرجة الأولى، وأن المنقول المعتمد فى التقعيد هو النقل عن أصحاب اللغة أنفسهم، مما حدا بإمامٍ كابن جنّى إلى القول بعدم حجية الإجماع وأنّ كل من فُرِقَ له عن علّة صحيحة وطريقٍ نَهِجَةٍ كان خليل نفسه وأبا عمرِو فكرهِ( ) ـ كان البدء ببحث "الاستصحاب" أولى من الناحية العلمية.
والسبب الثانى: ما شاع بين الدارسين من أن استصحاب الحال من أضعف الأدلة، حتى وجدت عدة مؤلفات فى أصول النحو تهملُ الحديث عن الاستصحاب، فكان القيام ببحث حول هذا الأصل يعيد تقويمه من خلال كلام النحاة فى أبواب النحو ومسائله ضرورة علمية، انطلاقًا من فرضية أنَّ الأنبارىَّ ومن بعده السيوطىَّ قد تأثرا فى حديثهما عن الاستصحاب خاصة وأصول النحو عامّة بما ورد فى أصول الفقه مما جعلهما ينقلان أحكامًا لا تتطابق تمام التطابق مع أصول النحو المبثوثة بالفعل فى كلام النحاة. ومن ثمَّ تقتضى النظرة الموضوعية إعادة صياغة هذه الأحكام الأصولية بعد استخلاصها من كلام النحاة فى الفروع.
وهكذا تشكلت لَدَىَّ دوافع اختيار هذا الموضوع.
وقد واجهتنى خلال رحلة البحث مجموعة من الصعوبات أذكر منها ما نبع من خصوصية موضوعه، وهى:
1- قلة ما كتب عن "الاستصحاب" فيما بين أيدينا قديمًا وحديثًا، مما جعل الاعتماد الأساسى فى استخلاص حقائق البحث يقوم على تحليل المادة النحوية التطبيقية لاستخلاص ما يتصل بهذا الجانب النظرى، مما يقتضى الوعى بكل إشارة، وهذا بدوره يحتاج إلى طور الوقوف أمام نصوص النحاة.
2- يضاف إلى ذلك اتساع مجال البحث، فهو لا يتناول شخصية واحدة أو فترة زمنية محددة بل يجوب فى النحو العربى من سيبويه إلى السيوطى والأشمونى.
والحق أنّ هذا الاتساع والتعدد بقدر ما أمدّ البحث بنصوص تعاونت على إكمال الصورة المطلوبة للاستصحاب كان رافدًا ـ من جهة أخرى ـ لقلق علمىّ مشروع، مَبْعَثُهُ الرغبة فى اطراد الفكرة ما أمكن حتى يستقيم القول بأن ثمة أصولا واحدةً سار عليها علماء النحو فى مجموعهم، وإلا انزلقنا إلى خطر القول بأن لكل نحوىٍّ أصولا مخالفة لغيره، إذ لا يعنى ذلك فى حقيقة الأمر إلا عَدَمَ وجودِ أصولٍ مستقرةٍ لهذا العلم، ولا ينفى هذا إمكانيةَ وجودِ خلاف فى مسائل جزئية تتعلق ببعض هذه الأصول وهو ما كشف البحث عن بعضه.
3- وأخيرًا تأتى الصعوبة العامة فى دراسة أصول النحو، وهى التى أشار إليها ابن جنّى فى تعليله لعدم اشتغال سابقيه بها إذ يقول: « وتُرِينى أنَّ تَعْريدَ كلٍّ من الفريق: البصريين والكوفيين عنه، وتحاميهم طريق الإلمام به والخوض فى أدنى أوشاله وخُلُجِهِ، فضلا عن اقتحام غماره ولُجَجِهِ ـ إنما كان لامتناع جانبه، وانتشاره شَعاعه، وبادى تهاجر قوانينه وأوضاعه، وذلك أنّا لم نرَ أحدًا من علماء البلدين تعرض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه »( ).
ولا شك في أن الدراسات السابقة على هذا البحث التى تناولت الاستصحاب قد مدّت له يد العون، وعلى نحو خاص كتاب "الأصول" للأستاذ الدكتور تمام حسّان، حيث كان ـ فيما أعلم ـ أول من تكلم حول الاستصحاب بشىء من التفصيل، وحدد مفهومًا للأصل والعدول والرد.
كما أفدتُ فى تصور أصول النحو عمومًا من كتابين هما: "أصول التفكير النحوىٍّ" للأستاذ الدكتور على أبو المكارم، و"أصول النحو العربى" للدكتور محمد خير الحلوانى، إلىجانب عدد من المؤلفات فى هذا المجال.
وتنبغى الإشارة إلى أنّ هناك بحثًا بعنوان "الاستدلال باستصحاب الحال" للدكتورة يسرية محمد إبراهيم، نشر بمجلة الزهراء الصادرة عن كلية الدراسات العربية فرع البنات بجامعة الأزهر، العدد السادس عشر أوّل ذى القعدة سنة 1418هـ/ 1998م. وقد جاء فى اثنتين وسبعين صفحة مشتملا على مقدمةٍ موجزةٍ عن أدلة النحو، وثلاثةِ مباحث:
الأول: استصحاب الحال لغة واصطلاحًا ومكانته عند النحاة.
والثانى: دراسة مسائل نحوية ورد فيها دليل استصحاب الحال.
والثالث: دراسة مسائل صرفية ورد فيها دليل استصحاب الحال.
وقد جاء المبحث الأول فى وريقات، واستغرق الثانى والثالث جُلَّ البحث، وتناولتْ صاحبته فى المبحث الثانى تسع مسائل وفى المبحث الثالث عشر مسائل.
وهو جهد طيب إلا أنه اقتصر على فكرة الاستدلال بالاستصحاب ولم يتناول تحليل عملية الاستصحاب ومقوماتها، ولا ما يتصل بذلك من بيان مفهوم، وذكر أسباب العدول، وتحديد علاقة الرد إلى الأصل بالاستصحاب، ولا تحليلَ علاقة الاستصحاب بغيره من الأدلة، ولا دَوْرَهُ فى التعليل والتوجيه إلى غير ذلك مما تناولته هذه الرسالة.
أما رسالتى هذه فقد جاءت فى مقدمة وتمهيد وستة فصولٍ وخاتمة.
فأمّا التمهيد فتناولت فيه مفهوم الأصل، فبينت أنه تتعدد مدلولاته فى كلام النحاة وأن الأصل المستصحب يكون بمعنى المستحق بالذات، وبمعنى المتقدم فى الرتبة وقسمت الرتبة إلى رتبة نفسية ورتبة لفظية، وأشرت إلى الفرق بين الحال والأصل، وإلى الفرق بين الأصل المستصحب والأصل بمعنى المقيس عليه. ثم أشرت إلى مفهوم العدول عن الأصل والردّ إليه وتركت التفصيل لموضعه.
وأمّا الفصل الأول فتناولت فيه الاستصحاب فى المؤلفات النحوية متتبعًا له تتبعًا تاريخيًا، وقد اخترت لذلك عددًا من أبرز النحاة، وحاولت خلال هذا العرض أن أتتبع إضافات كلٍّ على ما قدّمهُ سابقوهُ مع العناية بطرق التعبير عن هذا الإجراء ومسائله.
وأما الفصل الثانى فجاء بعنوان "مفهوم الاستصحاب ومقوماتُهُ"، وقد حدّدتُ فيه خمسة مقومات للاستصحاب، وحلّلتها مستخلصا إحدى عشرة صورة له من تطبيقات النحاة وكلامهم فى المسائل، إلى أنْ تَوَصّلْتُ إلى تعريفٍ للاستصحاب جامعٍ لهذه الصور، وذكرت طائفةً من القواعد المنهجية التى تتعلق بعملية الاستصحاب، ثم تعرضت للعلاقة بين الاستصحاب فى الدرس النحو والاستصحاب فى الدرس الفقهى مبينًا الفروق بينها استكمالا لصورته فى النحو.
وأما الفصل الثالث فتناول دور الاستصحاب فى التقعيد والاستدلال، وبينت فيه أن الاستصحاب فى عملية التقعيد تأتى مكانته عقب السماع، ونبّهت على ما يمكن أن يقع من تداخل بين الأصل المستصحب والقاعدة والكلية. وأما دوره فى الاستدلال فبينت فيه علاقته بالأدلة الأخرى تمهيدًا لتحديد قوته فى الاستدلال وقد توصلت إلى أن له دورًا بارزًا فى عملية الاستدلال، وأنه وإن كان نظريًا أضعف من السماع والقياس ـ فإنه على المستوى التطبيقى قد يتقدم على أحدهما، وعلى هذا ينبغى عدم التسليم للمقولة التى أشاعها الأنبارى وهى: أن الاستصحاب من أضعف الأدلة. ثم عرضت لأبرز المسائل التى استعمل فيها الاستصحاب فى الاستدلال.
وجاء الفصل الرابع متممًا لدور الاستصحاب فى الفكر النحوى من خلال استعراض دوره فى التعليل والتوجيه، وقد استدعى بيان دوره فى التعليل ذِكْرَى تقسيمات العلة عند النحاة، ثم ذكرت عددًا من المسائل التى يظهر فيها دور الاستصحاب فى التعليل، وكذلك عرضت للمسائل التى يبرز فيها دوره فى التوجيه.
وأما الفصل الخامس فهو بعنوان "العدول عن الأصل"، وقد تناول أنواع العدول، فهناك عدول مطردٌ وعدول غيرُ مطردٍ، ووسائلَ العدولِ، ثمَّ عرض بشىء من التفصيل لأسباب العدول، وقد قسّمتها إلى أسباب لفظية وأسباب معنوية.
وأمّا الفصل السادس فهو بعنوان "الردّ إلى الأصل"، وقد قسّمتُ فيه الردّ إلى: ردٍّ لفظى، وردٍّ ذهنىٍّ، وبينت فيه المراد من بالردّ من الأصل بنوعيه مفرقًا بينه وبين التأويل، ومبينًا علاقة هذا الإجراء بالاستصحاب وقوة ارتباطه به.
وأمّا الخاتمة فتضمّنت أهم النتائج.
هذا وقد كان معتمدى فى هذا البحث على نوعين من المصادر؛ الأول: كتب أصول النحو كالخصائص لابن جنّى، والإغراب ولمع الأدلة للأنبارى، والاقتراح للسيوطى. والثانى: كتب النحو العربى التى تتناول أبوابه ومسائله، فمنها استخلصت ما فى هذا البحث من مفاهيم وتعريفات وتقسيمات وأحكام، وأكثر ما اعتمدت عليه منها كتاب سيبويه، والمقتضب للمبرد، والأصول فى النحو لابن السّراج والمنصف لابن جنّى والإنصاف للأنبارى، واللّباب فى علل البناء والإعراب للعكبرى، وشرح المفصل لابن يعيش، وشرح التسهيل لابن مالك، والممتع والمقرب لابن عصفور، وشرح الكافية وشرح الشافية لرضى الدين الإستراباذى، ومغنى اللبيب لابن هشام، وهمع الهوامع والأشباه والنظائر للسيوطى، وشرح الأشمونى على ألفية ابن مالك، إلى جانب طائفةٍ أخرى من الكتب النحوية تأتى فى قائمة المصادر والمراجع.
وقد قمت بجمع المسائل من هذه الكتب، ثمّ تحليلها لاستخلاص عناصرها الأولى، ثمّ إعادة تركيبها فى بناء نظرى، وهى محاولة لصياغة جانب من أصول النحو صياغة قائمة على استنباط الأصول من الفروع لا على نقل أصول علمٍ آخر والتمثيل لها من العلم المؤصّلِ له.
فإن كنت قد أصبت منهجا وتطبيقًا فهذا ما أرجوه خدمةً لعلمٍ قام خدمةً لكتاب الله تعالى، وإن كنت قد أخطأت فى أحدهما أو كليهما فمن الله أسأل العفو والهداية، ومن أهل العلم ألتمس المسامحة والإرشاد، وأسل الله الأحد الصمد أن يجعل عملى هذا خالصًا لوجهه الكريم.
{ وما توفيقى إلَّا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب }
تامر أنيس

هناك تعليق واحد: