مدخل:
ما من شك في أنَّ الخلافة العثمانية كانت تمثل مظهرا مهما من مظاهر الوحدة بين المسلمين، تلك الوحدة التي تؤرق أعداءهم في كل مكان، وتجعلهم في خوف وترقب دائمين من هذا المارد، ومعلوم أنَّ اليهود من ألد أعداء الإسلام والمسلمين على مر التاريخ، ومن ثم وجدناهم يحاولون بكل السبل إضعاف مؤسسة الخلافة حتى انتهى الأمر إلى إسقاطها بالكلية، وها نحن في هذه الأيام نشهد آثار هذا السقوط المؤلمة من ضعف وتمزق وإذلال، فكيف تم لليهود هذا الكيد؟
اليهود والخلافة العثمانية:
«في أواخر القرن التاسع الهجري الموافق لأواخر القرن السادس عشر الميلادي وصلت إلى تركيا أعداد كبيرة جدا من اليهود قادمة من إسبانيا على إثر ما لقوه من اضطهاد على يد المسيحيين الأسبان الذين تولوا حكم البلاد بعد أن أفل نجم المسلمين من سماء الأندلس».
وذلك بناء على طلب تقدم به مجموعة من حاخامي اليهود المطرودين من إسبانيا إلى السلطان بايزيد الثاني لكي يسمحلهم بالهجر إلى الدولة العثمانية، ففتح لهم السلطان أبواب دولته على مصاريعها وأصدر أوامره إلى حكام الأقاليم بعدم رفض اليهود أو وضع العقبات أمامهم.
استقر اليهود في العديد من المدن الرئيسة مثل استانبول وأدرنه وإزمير وسلانيك. وقد سمح العثمانيون لليهود بالمشاركة في جميع جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، فكان منهم المستشارون والأطباء والتجار والأدباء.
ومع هذا لم يحفظ اليهود هذا الجميل بل راحوا يعملون في الخفاء على تخريب ديار الدولة وتشويه سمعة رجالها والسيطرة على أموالها وم نثم تقويض أركانها.
وأخطر ما في الأمر أنهم قاموا بهذه الأعمال تحت لباس الإسلام ؛ إذ تظاهروا بالدخول في الإسلام حتى يتمكنوا من ترويج كذبهم وخداعهم على المسلمين، وذلك تنفيذا لوصية زعيمهم الروحي سباتاي زفي، حتى إنَّ الأتراك قد أطلقوا على هذه الطائفة اسم (الدونما)، أي العائدون اعتقادا منهم بأن هؤلاء اليهود قد هداهم الله فعادوا كما فطرهم مسلمين، ولم يخطر ببالهم أنهم إزاء قيام فرقة يهودية خطيرة سيكون لها دور ضليع في إضعاف دولتهم وتقويض أركانها.
وكلمة (الدونما) تستعمل كصفة مشتقة منم المصدر التركي (دونمك donmek) بمعنى الرجوع أو العودة أو الارتداد. [أحمد نوري النعيمي: يهود الدونمة ص8].
وكان هدف يهود الدونما هو القضاء على الدولة الإسلامية التي يرونها حجر عثرة في سبيل تحقيق حلمهم بإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين كما وعدهم سباتاي. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف راح الدونما يتغلغلون في شعاب البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والثقافية للدولة العثمانية حتى تمكنوا من إحكام قبضتهم عليها بعد زمن طويل من العمل الجاد، فكانوا بعد ذلك على أهبة الاستعداد لتقديم العون لكافة القوى الداخلية والخارجية المعادية للدولة العثمانية.
***
أساليب تآمر اليهود ضد الدولة العثمانية:
1- مناوأة السلطان عبد الحميد الثاني أقوى سلاطين المرحلة:
لعبت المحافل الماسونية مع يهود الدونمة دورا مؤثرا في التخطيط لخلع السلطان عبد الحميد الثاني، وكانت بمثابة العقل المدبر، كما كانت الدول الأجنبية بمنزلة الممول لأنه كان لها نفوذ كبير في أوساط الباب العالي وبين الأتراك الشبان، وهناك أدلة كثيرة تؤكد الارتباط الوثيق بين الصهيونية والماسونية، وتؤكد أن الماسونية هي من إفرازات الحركة الصهيونية، وهذا ما تثبته دائرة المعارف الأمريكية عام 1906م، ودائرة المعارف اليهودية، وبعض الصحف اليهودية الصادرة في فترات وسنوات متفاوتة.
في عام 1889م شكل جماعة من طلبة المدرسة الطبية العسكرية الامبراطورية في استانبول منظمة سرية هدفها الواضح عزل السلطان عبد الحميد الثاني، وكان وراء هذا التشكيل السري رجل ماسوني من ألبانيا اسمه (إبراهيم تيمو) أو (أدهم)، وقد باشرت أعمالها منذ عام 1891م في جينيف أولا ثم نقلوها إلى باريس، وكانوا يعملون على نشر دعوتهم سرا، واتخذوا لذلك طريق الجيش لبث أفكارهم، وأصدروا مجلة (عثمانلي) في جينيف لمحاربة السلطان عبد الحميد وتأليب الرأي العام عليه وذلك لكسب مؤيدين لتنظيمهم، وقد عرف هذا التنتظيم باسم الاتحاد والترقي وهو فرع لحزب تركيا الفتاة، وقد دأب أعضاء هذه الجماعة على عقد اجتماعاتهم السرية في المحافل الماسونية.
وكانوا يطبعون المنشورات المناوئة للسلطان في الخارج ثم يسربونها إلى داخل تركيا عن طريق سفارات الدول الأوروبية وقنصلياتها التي كانت مصونة من مراقبة الدولة العثمانية بسبب الامتيازات الأجنبية.
وفي عام 1896م عقد في فيينا مؤتمر دعت إليه جمعية الاتحاد والترقي اشترك فيه الأرمن واليونان والمقدونيون والعرب واليهود وبقية الأقليات، وبقية الأقليات ، وقرروا فيه خلع السلطان وقلب نظام الحكم.
وقد عمد أعضاء الجماعة إلى الولايات البعيدة كمصر الواقعة تحت النفوذ البريطاني للمارسة نشاطهم بعيدا عن قبضة السلطان عبد الحميد الحديدية ، حتى إنهم أنشأوا بمصر مطبعة لطبع منشوراتهم التي تعبر عن توجهاتهم، ولكن ظلت سالونيك المركز الأساسي والأمين لنشاطهم السياسي والعسكري على السواء.
وفي أوائل القرن العشرين رأت الجمعية ضرورة استمالة أقرباء السلطان، لتقوية شوكتها ودعم مطالبها، ومن هؤلاء الذين استمالتهم محمود باشا صهر السلطان الذي فر من الآستانة وصرح في أوروبا بأنه: «موافق على حركات تركيا الفتاة، وأن في عزمه أن يطبع رسالة يفصل فيها دسائس السلطان وحاشيته في يلديز ... وأن نشرياته ستكون واسطة لانضمام كثير من الأهالي مع حزب تركيا الفتاة، وتكون نتيجة ذلك إحداث انقلابات أساسية في الآستانة».
وبدأت أفكار (تركيا الفتاة) تنتشر داخل وخارج الامبراطورية في الفترة من 1902- 1907م، وعقد في عام 1907م مؤتمر (كامبل بانرمان) كان من مقرراته إجبار السلطان عبد الحميد على ترك العرش، وكان لليهود نفوذ قوي في أوساط جمعية الاتحاد والترقي، استغلوه في التخلص من السلطان عبد الحميد الذي رفض إعطاء فلسطين لليهود، وقد كانت السيطرة على فلسطين أمرا عسيرا من الناحية العسكرية والسياسية، لذا كان من مقررات هذا المؤتمر أيضا زرع الشعب اليهودي في فلسطين، إذ كان من الطبعي أن تستغل الحركة الصهيونية المؤتمرات والثورات والانقلابات ضد الحكم العثماني.
وفي عام 1908 اتسعت جمعية الاتحاد والترقي وتفاقم خطرها خاصة بعد دخول اليهود في عضويتها، ودخول يهود الدونمة المتسترين المقيمين في سالونيك ، حتى قامت بثورتها ضد السلطان عبد الحميد في 23يوليو 1908.
ويذكر القائد التركي جواد رفعت أتلخان المعاصر للسلطان عبد الحميد أن الهدف من ثورة 1908 هو أن الصهيونيين يريدون تجريد السلطان عبد الحميد من سلطنته وثروته وأملاكه انتقاما منه ولعدم إفساح المجال له للقيام ضدهم ثانيةً، ويضيف في كتابه (الإسلام وبنو إسرائيل) «أن اليهود هم الذين نشروا الفوضى في داخلية البلاد، ونظموا القوى المناهضة للحكم التركي بقصد تحطيم الامبراطورية العثمانية، وسلحوا أعضاء تركيا الفتاة في الخارج، ونظموا صفوفهم وأمدوهم بالأموال».
هذا ويمكن القول بأن اليهود لعبوا دورا فعالا في ثورة 1908، ويؤكد (ستون واتسون) هذه الحقيقة بقوله: «إنَّ أصحاب العقول المحركة لثورة الاتحاد والترقي عام 1908 كانوا يهودًا ومن الدونمة، واما المساعدات المالية فإنما كانت تجيئهم عن طريق الدونمة ويهود سالونيك المتمولين».
ويعترف المؤرخ الصهيوني (Kallen) بأن أكثر أعضاء جمعية الاتحاد والترقي بأن أكثر أعضاء جمعية الاتحاد والترقي كانوا من الدونمة.
وكان نتيجة هذه الثورة إعلان الدستور وإعادة مجلس المبعوثان وإجراء الانتخابات، التي أدت بدورها إلى تصعيد عناصر من جمعية الاتحاد والترقي إلى المجلس، وتداعت الأحداث حتى كان عزل السلطان عبد الحميد الثاني في 1909، وقد كان هذا السلطان حجر عثرة أمام أطماع الصهيونية من ناحية ، وصمام أمان لكيان الدولة العثمانية من ناحية أخرى، ومن ثم يمكن القول بأن عزل السلطان عبد الحميد يعد الخطوة الأولى في طريق إسقاط الخلافة العثمانية.
2- إرباك الدولة ماديا وإيقاعها تحت طائلة الديون وفرض الوصاية عليها
رأى اليهود أن إرباك الدولة العثمانية بالديون سيكون وسيلة قوية لإجبار حكامها على أن يسمحوا لهم بتنفيذ مشاريعهم الاستيطانية، لذا نجد اليهود وحلفاءهم الأوروبيين قد عمدوا إلى استنزاف موارد الدولة عن طريق إثارة الفتن والقلاقل في الداخل، وإضرام نار الحروب في الخارج.
ولقد اتفق الكثير من المؤرخين والمحللين الاقتصاديين على أن أهم أسباب الارتباك المادي الذي عانت منه الدولة العثمانية في عهودها المتأخرة عائد إلى كثرة الحروب التي افتعلها أعداؤها وأقحمت فيها.
وقد أتاحت تلك الديون الفرصة للدول الأجنبية الدائنة للتدخل في شئون الدولة الداخلية عن طريق مراقبيهم الماليين الذين فرضتهم على الدولة العثمانية.
ونسوق مثالا على دور اليهود في هذا الإرباك المادي المؤدي إلى التدخل الأجنبي ما قام به الصدر الأعظم مدحت باشا وهو من يهود الدونمة وعميل للإنجليز من إقناع السلطان عبد العزيز بأهمية إصدار فرمان يمنح خديوي مصر (إسماعيل باشا) حقَّ الاقتراض من الخارج، في عام 1289هـ-1872م، وبذلك أتاح مدحت باشا لأربابه الإنجليز ليستغلوا إسراف الخديوي إسماعيل ورعونته، حيث أغرق مصر بالديون الخارجية، ثم طرح أسهمها في قناة السويس للبيع، فسارع رئيس وزراء بريطانيا اليهودي (دزرائيلي) بشراء تلك الأسهم، وقد كان للبارون اليهودي البريطاني (روتشلد) فضل كبير في تمويل تلك الصفقة السياسية التي حققت لبريطانيا مزيدًا من الضمانات لسلامة مستعمراتها القديمة. بل أدى استغلال هذه الضائقة في نهاية الأمر إلى اقتطاع مصر من جسد الإمبراطورية العثمانية باحتلال بريطانيا لها في عام 1882م.
***
مصطفى كمال وإسقاط الخلافة:
ولد مصطفى كمال في سالونيك عام 1298هـ/1880م. وهو من يهود الدونمة، تخرج في السابعة عشرة من عمره في المدرسة العسكرية بسالونيك، وأرسل إلى المدرسة العسكرية العليا في موناستر حيث يوجد المحفل الماسوني الإنجليزي الذي اجتذبه فأصبح من أكثر أعضائه ولاءً. كما كانت مونستر تعج بالأجانب الذين يبذلون قصارى جهدهم في إثارة الفتن وإشاعة روح السخط ضد السلطان عبد الحميد الثاني، فتشرب مصطفى كمال تلك الأفكار وتحول إلى مروج لها.
ثم انتقل إلى الأكاديمية الحربية في استنابول حيث ازداد اهتمامه بالسياسة واتضحت ميوله الثورية، كما أخذ يقضي أوقاتا طويلة في أماكن اللهو والمجون يقامر ويشرب الخمر ويمارس كل الموبقات والرذائل حتى أثر ذلك على صحته.
ثم التحق بكلية الأركان وتخرج فيها برتبة رائد عام 1905م، فعين في لواء الفرسان المرابط في دمشق، وهناك أسس جمعية ثورية باسم (جمعية الوطن) تعارض السلطان عبد الحميد وتتهمه بالطغيان، وتهاجم علماء الدين الذين يعارضون الإصلاح على الطريقة الغربية.
ولما رأى معارضة أهل دمشق لأفكاره سعى جاهدًا لكي ينقل إلى موطنه موطنِ القلاقل سالونيك، وتحقق له ذلك في عام 1907 حيث عين في دائرة الأركان في الجيش الثالث الموجود بها، وفيما كان يخطط لإنشاء جمعية ثورية على غرار الجمعية التي أنشاها في دمشق لاحظ وجود جمعية سرية كبيرة جدا قد انتشر نشاطها بين معظم أفراد وضباط الجيش الثالث في سالونيك أُطلِق عليها جمعية الاتحاد والترقي، وقد وجه بعض الضباط من أعضاء هذه الجمعية الدعوة لمصطفى كمال للانضمام إليها؛ إذ كانت تجمعهم به زمالة قديمة عرفوا من خلالها ميولَه الثورية.
ونظرا لشخصية مصطفى كمال المتسلطة فقد حرص قادة الحركة على أن يظل خارج نطاق الدائرة الضيقة التي تدير أعمال الجمعية، إلا أنه كان واحدا في جيش الضباط الذي شارك في التصدي للثورة المضادة للحركة في استانبول سنة 1909، فاحتلها وخلع السلطان عبد الحميد.
إلا أن مشاركة مصطفى كمال في هذا الجيش لم تعد عليه بالثمرة التي يرجوها إذ رجع بعدها إلى سالونيك للمارسة عمله العسكري كما كان، فجعله هذا يمتلئ حقدا على قادة الحركة الذين استأثروا بالحكم والشهرة، مما دفعه إلى أن ينظم اجتماعات سرية مع بعض الضباط الحانقين على زعماء الثورة للسبب نفسه، وعندما اكتشف زعماء الجمعية تحركاته اتهموه بتحريض الجنود على الثورة وجعلوه تحت المراقبة.
وفي محاولة من الاتحاديين لإبعاده والتخلص منه عين ملحقا عسكريا في العاصمة البلغارية (صوفيا) وهناك بُهر بالحياة الغربية وافتتن بمعاييرها الاجتماعية خاصة ما يتعلق باختلاط الرجال بالنساء، فأهمل عمله الذي كلف به وغرق في اللهو.
وعندما قامت الحرب العالمية الأولى أرسل إلى أنور باشا وزير الحربية يطلب منه أن يُسنِد إليه القيادة في إحدى الجبهات وبعد إلحاح منه كلفه الوزير ببعض المهام الحربية، فعين قائدا للجيش السابع في الجبهة السورية، وهناك ادعى المرض ولزم فراشه حتى بدأ الهجوم الإنجليزي ثم أصدر أوامره المفاجئة بالانسحاب شمالا نحو دمشق متيحًا بذلك الفرصة للعدو ليتقدم شمالا دون عناء ويتمكن من هزيمة بقية قطاعات الجيش في تلك الجبهة لحرمانها من مساندة الجيوش التي تحت إمرته.
وهذا التصرف ينبئ عن وجود اتفاق مسبق بينه وبين الإنجليز ومما يدل على ذلك اتصاله بضابط المخابرات الإنجليزي لورنس عندما كان في الشام.
وهذه الخيانة العظيمة للدولة العثمانية كانت وراء اختيار الإنجليز له لكي ينفذ مخطط إسقاط الخلافة العثمانية.
فقد أوعزوا إلى عملائهم في الحكومة العثمانية لتقريبه من السلطان محمد وحيد الدين، وترشيحه لتولي قيادة تلك الثورة الوطنية التي قامت في الأناضول فيأعقاب هدنة (مدروس) في الوقت الذي كانوا يظهرون فيه الحرصَ على إخماد تلك الثورة.
وما أن وصل إلى منطقة قيادة الثورة الوطنية بعد أن ندبه السلطان لذلك حتى راح يتنكر له ويعلن أمام الجماهير الثائرة أنَّ السلطان صار ألعوبةً في أيدي الإنجليز ويصوره لهم رمزا للهزيمة والتفريط في حقوق البلاد.
وسعى جاهدا إلى أن يضم إلى صفه كبار قواد الجيش في الأناضول، وقد منحته صلاحيات عمله الواسعة بوصفه مفتشا عاما لجيوش الأناضول القوة في هذا المجال، كما وضع خطةً لإثارة عامة الشعب في تلك المنطقة، فكان يطوف بالقرى ويعقد الاجتماعات ويردد: «لقد قرر العدو أن يدمر تركيا وطننا ... وبات السلطان ـ خليفتكم ـ مسلوب الحول والقوة أسيرًا في ايدي الإنجليز ... يجب أنْ تُنقِذوا أنفُسَكم بأنفُسِكم». حتى تمكن من إشاعة جو من الحماسة القومية خدع به الجماهير الثائرة، ثم عقد مؤتمرًا عاما في مدينة سيواس ووجه الدعوة لحضوره إلى جميع منظمات المقاومة.
وعندما وصلت أنباء تلك التحركات إلى إستانبول أرسلت وزارة الحربية إلى مصطفى كمال استدعاءً للحضور إلى العاصمة، لكنه لم يحضر، وتكرر الاستدعاء والتجاهل من جانبه، وبدأ الإنجليز في لعب دورهم إذ أبدوا اعتراضَهم على الثورة وطالبوا بخلع مصطفى كمال من منصبه مهددين بالتدخل العسكري، وبالفعل تمت إقالته.
واستطاع مصطفى كمال أن يُقنِعَ كبار القواد العسكريين وممثلي منظمات المقاومة في مؤتمر عقده في مدينة (أرضروم) في 23يوليو 1919م – بضرورة تأليف حكومة مؤقتة تُنْتَخَب في مؤتمر قومي عام، يقصد مؤتمر سيواس المنتظر، لتتولَّى تصريفَ شئون البلاد ومقاومة الاحتلال بدعوَى أنَّ الحكومة الشرعية واقعة تحت سيطرة الأعداء، كما استطاع الحصول على موافقتهم على اختياره رئيسًا للجنة التي ستتولى تنفيذ قرارات هذا المؤتمر، وتمثيلهم في مؤتمر سيواس بعد أن وعدهم بألا يقدم على شيء فيه إساءة للسلطان.
ثم عقد مؤتمر سيواس في 4سبتمبر 1919، على الرغم من جهود الحكومة العثمانية لمنع انعقاده، وحضره مندوبون من جميع أنحاء البلاد، والنتُخِبَ مصطفى كمال رئيسًا له لكونه رئيس اللجنة التمثيلية لمؤتمر أرضروم، واستطاع إقناع المؤتمرين بالموافقة على قرارات مؤتمر ارضروم، وتشكيل لجنة تنفيذية للتولى عمل الحكومة المؤقتة، وانتخابه رئيسًا لها، ولكنهم اشترطوا عليه أيضًا عدم مواجهة الحكومة الشرعية بالعداء وعدم تعريض البيلاد لحرب أهلية، واتفقوا على إطلاق اسم (الميثاق الوطني) على قرارات مؤتمر سيواس.
وبدأ بعد ذلك بقطع وسائل الاتصال بين الأناضول وإستانبول، وأمرَ بتحويل جميع الإيرادات والمراسلات إليه وأشعر جميع الدوائر الرسمية في الأناضول بأنها ستكون مرتبطة به.
ثم أرسل إلى السلطان يطلب منه إقالة الصدر الأعظم وحل البرلمان وإجراء انتخابات، وأوعز إلى أنصاره أن يرسلوا إلى السلطان مؤيدين طلبه، فاضطر السلطان للموافقة، وأسفرت نتائج الانتخابات الجديدة عن وصول عدد كبير من أنصاره إلى البرلمان، ولكنهم لم يوافقوه على نقل مقر البرلمان إلى أنقره، وافتتح المجلس النيابي بعد أن خذل أنصار مصطفى كمال المنتخبون فيه أطماعَه في انْ يكونوا أداةً يتحكم فيها للوصول إلى مآربه.
وهنا بدأ تدخل الإنجليز لدعم موقف عميلهم مصطفى كمال، ففي 19مارس 1920قام الإنجليز بإعلان احتلال إستانبول رسميًّا بحجة عدم وضع حد لنشاط قوى المقاومة المناوئة لهم، وألقوا القبض على عدد من النواب وأغلقوا مقر البرلمان.
وهنا هب مصطفى كمال يستثير حمية الشعب للدفاع عن دار الخلافة فأبرق إلى النواب الذين فروا من الاعتقال لإقامة مجلس نيابي جديد في أنقرة.
وكان من الطبيعي عندما وصلت الأنباء إلى إستانبول أن يتحرك السلطان لوضع حد لهذا المارق الذي استطال شره، وكان قد تجنب الاصطدام به طويلا خشية قيام حرب أهلية، ولكن لم يعد هناك مجال للصبر، لذا فقد كلف وزير الحربية بإرسال قوات عسكرية لتعقب الثوار والقضاء عليهم، واعلن نداءً إلى الشعب يطلب مؤازرته في التصدي لهؤلاء المارقين.
وكادت جيوش الخليفة تنتصر لولا تحرك الإنجليز لإنقاذ عميلهم اليهودي، إذ أعلنوا شروط معاهدة (سيفر) التي وقع عليها الخليفة، وهي شروط مذلة أشعلت نار الغضب على الخليفة ووزرائه في نفوس الشعب، كما عملوا من جهة أخرى على تصوير مصطفى كمال بصورة البطل المجاهد، من خلال إيعازهم أولا لرئيس الوزراء اليوناني بالتوغل في غرب تركيا بقواته، ثم دعمهم لمصطفى كمال في صد هذه القوات اليونانية في تمثيلية حقيرة كان من نتائجها اجتياح الثقرى التركية المسلمة وحرقها، وحصول مصطفى كمال على صلاحيات كبيرة من المجلس النيابي، وتصويره بصورة البطل القومي.
وتم الاعتراف بعد ذلك من دول أوروبية بحكومة أنقرة، وفي غمرة تهنئته بالنصر الزائف نفذ مصطفى كمال الجزء الأخير من المخطط، وأعلن قيام الجمهورية التركية وإلغاء الخلافة الإسلامية، متنكرا لكل القيم الإسلامية التي لم يؤمن بها يومًا، ومحققا هدفا سعى إليه اليهود والقوى الاستعمارية على مدى عشرات السنين.
***
المراجع:
1- دور اليهود في إسقاط الدولة العثمانية، رسالة جامعية من إعداد هيلة بنت سعد بن محمد السليمي، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة أم القرى – المملكة العربية السعودية، عام 1422هـ-2001م.
2- دور اليهود والقوى الدولية في خلع السلطان عبد الحميد الثاني عن العرش (1908-1909)، الدكتور حسان على حلاق، الدار الجامعية للطباعة والنشر- بيروت.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
بارك الله فيكم أستاذنا الكريم
ردحذف