قاعة المحاضرات تغص بالطلاب، رائحة الشتاء تنشر عبق الحياة في النفوس مع احتجاب شمس الظهيرة خلف الغيوم. همهمات الطلاب لا تتوقف؛ تعلو حتى تتداخل مع ذرات الأثير، تقطعها ضحكات ترسم روح الشباب.
ودخل الدكتور، فبدأت الأصوات تخفت، وتصمت.
أستاذ الأدب الحديث حدد الموضوع، وأخذ يخوض في كتابه الضخم قراءة وشرحًا .. الصراع الأدبي تسري حرارته .. قوة غريبة تدفع قوى الطبيعة.
ويأتي سيل الأوراق؛ تساؤلات، وتعليقات، وأشياء أخرى. تعبث يد الدكتور ببعض الأوراق وهو يتابع الحديث، يبدأ في فتح بعضها، يجيب عن بعضٍ وينحي بعضًا آخر، وأحيانًا دون تعليق: الكتاب صعب .. نخشى الامتحان .. المقرر طويل، ويفتح ورقة تبدو أنيقة ويقرؤها: «أنا طالب متفوق حاصل على الترتيب الأول، قرأت كتابكم عشر مرات إلى الآن، أعجبت بملكة البحث العالية فيه، واندفعت بطاقتها إلى بحث عن ...».
وغُمَّ عليَّ الكلام، فلم أستطع أن أتبين شيئًا منه أكثر من هذا، بعد أنْ صدمتني كلماته الأولى، فارتفعت يدي، ولم أنتظر الإذن فقمت معترضًا أقول:
أنا لم أكتب هذه الورقة .. أعني .. أنني الأول .. لكني لم أكتبها!!!
التفت الدكتور، ونظر إليَّ من خلف منظاره الطبي، حاولت تفسير نظراته، ولكنني لم أنجح، وتداخلت المعاني: دهشة، استنكار، شك، وربما احتقار. التقطتُ كلمةً منه بعناء:
منْ أنت؟
أنا الأوَّل.
ومنْ أرسل هذه الورقة إذن؟
تعالت الهمهمات، لا شيءَ مفهوم، لا أعرف ماذا أفعل؟! من أرسلها؟!!
وجاء صوتٌ من الخلف مرتفع وعميق، كنت أسمعه بوضوح دون سائر الأصوات، وكان يقول:
بل أنا الأول، وأنا الذي أرسلتُ هذه الورقة.
التفتُّ ورائي، كانت الهمهمات تعلو، ودقات قلبي تسرع إثرَ صدمةٍ أخرى. كان أيُّ شيءٍ متوقعًا في اعتقادي؛ أن يكون الأمر مجرد دعابة سخيفة من أحدهم تنتهي بإعلاني عن ذاتي، أن يدعيَ زميلٌ هذه الصفةَ متزلفًا بما قرأ وفعل فإذا ما برز انكشفت للجميع الحقيقة. لكن ما حدث لم يكن هذا ولا ذاك، فقد رأيت شخصًا شبيهًا بي تمامَ الشبهِ لا يكاد ينماز عنِّي بشيءٍ سوى أنَّه يرتدي سترتي السوداء التي تركتها في المنزل اليوم واستبدلت بها معطفًا جديدًا لم أرتده من قبل.
أنعمت النظر في قسماته، وأنا أحاول أن أتذكر جيدًا آخر مرة نظرت فيها إلى المرآة، فشعرت بأنَّ ذاكرتي قد حُجِبَتْ وراء غلالة إنْ لم تكن قد سُلِبَتْ. نظرت من النافذة إلى السماء بحركة هادئة، كانت تنطق بأنَّ النهار موجود، ولكنَّ الشمس لم تكن بادية. وعدت سريعًا ببصري إلى هذا الذي ظهر، لمحته يرمقني بنظراتٍ متعالية هازئة، فدبَّ الحنقُ عليه في نفسي.
والتفتُّ إلى الدكتور فوجدته يتفرس فيَّ وفيه، ويبدو أن الدهشة تملَّكته للحظات، لكنْ سرعان ما قال بلهجة حاسمة انخفضت لها همهمات الطلاب:
الأمر يسير، هذان توأمان يريدان أن يضيِّعا وقت المحاضرة بهذه المسرحية السخيفة.
استجمعتُ ما وجدته في عقلي من طاقة وقلت:
أرجوك يا أستاذي !! أنا لم أره من قبل.
وحدجته بنظرة سريعة ألقت في نفسي الشكَّ فيما ألفظ به أنا أتابع:
صدقني.
أحسست بعدها أنني لم يبق لي من طاقات العقل إلا البديهة، وتبددت عن نفسي ثقتُها كبحيرة بخرتها حرارة الشمس، واجتمعت عليَّ حيرةٌ تتسع، وقلق ينبض، وغيظ لم أعهده. واجتاحني شعور بأنني مقيد بين صفوف الطلاب، فاستجمعت هذه الأشلاء وخرجت من بين الطلاب لأقف بجواره أمام الدكتور وعلى مشهد من الجميع. ولم أكد أنفصل عن المقاعد حتى قال بصوته المرتفع العميق:
إنه في قمة التوتر يا دكتور وهذا دليل كاف على كذبه.
سَرَتْ رعشة بردٍ في عروقي، ونطقْتُ بلسان البديهة وأنا ألوح بيدي في ارتباك:
فليسأل أستاذي زملائي فما أظن أنهم ينكرونني.
وكأن جدة الموقف قد فرضت نفسها فتوجه الدكتور إلى الطلاب قائلا:
هل يستطيع أحدكم تعرف الأول منهما؟
في البداية شعرت بشيء من الثقة يعود إلى نفسي، لا أدري كيف اعتقدت أن زملائي سيشيرون إليَّ دون تردد. نظرتُ إلى أعينهم فتسابقت نحوي نظرات الإنكار، وتنبهت في لحظة إلى أنه يرتدي سترتي التي اعتادوا أن يروني فيها، فانقلب ما لاح من ثقة شكًّا على شكٍّ، حتى امتد هذا الشك إلى قوة البديهة التي بقيَتْ لي.
وعدتُ أنظر إليه، كانت نظراته لي شديدة الثقة غير عابئة بأيِّ شيءٍ .. يا إلهي! إنه يشبهني تمام الشبه.
لم تعد القضية عندي معرفة (من الأول؟) فقد استوى في أعماقي أكون (أنا) أو (هو)، بل ربما اعتراني شك في يقيني، وميل إلى أنه الأحق مني لما يبدو عليه من ثبات وثقة واطمئنان فيما يقول، وازدراء! ولا يردني عن هذا إلا ما تمليه علي البديهة.
أصبحت القضية أن أكتشف سر هذا الشخص؛ من أين جاء؟ ولماذا يشبهني هذا الشبه؟
ودفق قلبي الدم دفقة قوية انقلب معها التساؤل: أليس من الممكن أن أكون أنا الدخيل عليه؟ يا إلهي .. من منا الأصل ومن ...؟!! أفقت على قول الدكتور:
إذن فلنسأل والمجيب هو الصادق.
دفق قلبي الدمَ دفقةً قوية، وارتعشت أناملي، ونظرت إلى السماء من النافذة فوجدت السحب قد تكاثفت، والشمس زاد احتجابها، ونفثت الريح في نفسي من برد الشتاء فارتجفت، وتلفَّتُّ مذعورًا - كصيدٍ اقترب أجله – إلى الدكتور، فشبيهي الذي لا أعرفه، فالطلاب .. ثم أطرقت مستسلما وهو يقول:
نعم، هذا هو أفضل حل.
وسأل الدكتور فلم أجد سؤالَه يقع في داخلي على إجابة أو شبه إجابة ..
انسلخت كل الأصوات عن صفاتها، وعادت أصواتًا مجردة لا تدل على شيء. ضجيج مستمر، ممل، ومرعب أحيانا. ولم يتناه إلى سمعي صافيًا واضحًا عميقًا إلا صوتُه وهو يجيب منطلقًا ويناقش. وفجأة تذكرت شيئا، فصحت:
عفوًا، أنا معي دليل مادي ورسمي أيضا.
التفت إليَّ الدكتور، وأحسست من نظراته أنه لا يكاد يصدق حرفا مني، ولكني قلتُ في تحدٍّ وأنا أحرك يدي في جيب معطفي:
هذه بطاقتي الجامعية.
هل تظنُّ أنَّه من الصعب الخداع في هذا؟
وما الذي سأفيده من الخداع؟! على أية حال فليخرج هذا الزميل بطاقته.
والتفتُّ إليه، شيء ما جعلني أتصرف هذا التصرف، ولأول مرة لمحت في عينيه شيئا من التوتر، أو لعلي توهمت ذلك، فابتسمت، عبث بيده في طيات ملابسه ثم قال:
يبدو أنني قد نسيتها.
وخُيِّلَ إليَّ أنَّ الدكتور يقول:
البطاقة لا تعرفنا إلا أنك طالب هنا، أما ترتيبك فيعرفُ بك أنت.
عادت الأصوات تتمازج وتتخلى عنها ملامحها لتصبح ضجيجا لا معنى له، وأنفاس الحضور تلفُّ هذا الضجيج، وانطلق بصري عبر النافذة إلى السماء .. لا تزال الشمس محتجبة، والسحب تلف أشعتها فلا يكاد ينفذ منها شيء، ومع هذا لم أشك في أنَّ النهار مازال موجودًا. وتحولت سريعا إلى القاعة لأتساءل في نفسي: إلى متى سيظل هذا المشهد العجيب بل الكئيب؟! هل أنا في حلم؟! مَنْ هذا الشبيه ؟ من أين خرج؟ ولماذا؟!
لم يبقَ أمامي إلا عملٌ واحد، فاستلفتُّ الدكتور ولوَّحتُ أمامَه بكلتا يديّ في حركة استسلامية، وصحتُ:
إذن .. فلا بد أن أعترف أنا.
سرَتْ موجةُ غمغماتٍ ثم صمَتَ الجميع بالتدريج حتى لم أعد أسمع صوتًا، واتجهت كل الأنظار إليَّ تنتظر ماذا سأقول. فكَّرْتُ قليلًا فيما أنا مقدمٌ عليه، ولكني لم أطل التفكير لأني لم أجد له جدوى، فقلتُ وبصري مثبَّتٌ على الشبيه:
نعم، سأعترف بكلِّ شيءٍ .. أنا لستُ الأوَّلَ، هذا هو الأول، ويبدو أن نفسي سوَّلت لي أخذ بطاقته خفية، أليس هو صاحب الصفات التي أهلته لذلك؟! ولكن بقي أنْ تعرفوا مَنْ أنا؟ زاد الصمتُ عمقًا في أركان القاعة، واتسعت الأحداق متطلعةً إلى المجهول، فهممتُ أن أقول شيئًا ما، لكنه سبقني بالكلام:
من ستكون يا تُرَى؟
وتابع بابتسامة ساخرة:
شبحا أرتديه مثلا؟!
تملكني شيء من العجب .. يا إلهي! من أينَ عرف ما يدور بخاطري؟! لقد كدت أنطق بهذا وإن كنت لا أجد له مغزى محددا في نفسي، فقط شعرت أنه سيحرك شيئا ما في أفق الموقف. وعاد يتحدث وقد اتسعت ابتسامته الساخرة وارتفع صوته:
أيها الأستاذ المبجل .. أيها الزملاء الأعزاء، إنني أطلب إليكم الآن ...
وشُدَّت الأنظارُ إليه، وعقد الصمتُ الألسنَ بعد موجة غمغمات سريعة، وهو يتابع منقلا نظرةً عجيبةً بين الطلاب والأستاذ ثم إليَّ أخيرًا:
إنني أطلب إليكم ألا تصدقوه.
عادت الهمسات وأخذت تعلو حتى شحن جو القاعة بالكلمات المتطايرة من هنا ومن هناك.
وخطر ببالي خاطر مبهم؛ ما هذه السلبية التي يتصرف بها هؤلاء الطلاب؟! أليس فيهم من يبدي رأيًا أو يعترض على شيء؟!! كلهم أمامي كـأنهم شخصٌ واحد له أجساد متعددة. رفعت يدي إلى رأسي ومسحت جبهتي بكفي، وعدت أنظر إليه. قال ولم تزل ابتسامته الساخرة على وجهه:
ولكن لا تكذبوني أيضًا.
علت موجة الهمهمات وغشيت جنبات القاعة، وبدا لي هذه المرة أنني في حلم، نعم .. لم لا؟! أنا في حلم وسأستيقظ بعد قليل وأنظر في ساعتي فأُصدَم حينما أدرك أنَّ المحاضرة الأولى قد فاتتني!!
وأطرقت مليًّا، وسمعت الدكتور يقول له:
ماذا تعني؟
هو يفهم كلَّ شيء.
من سلطكما علينا اليوم؟
أرجو من سيادتك ألا تغضب؛ فأنا يؤلمني أن أضايق أستاذا لي.
كل هذا وتريدني ألا أتضايق أو أغضب؟! لولا ما عهدته في نفسي من حلم لكان لي معكما شأن آخر.
أعرف هذا يا أستاذي الفاضل، وأرجو ...
أرجو ... أرجو ... إما أن تبينَ لنا عن أمركما أو ...
حسنا، ولكن أرجوك أن تهدأ أستاذي ولا تعنف عليَّ . إذا هجس في نفس إنسان خاطر وأراد أن يخرجه فماذا يفعل؟
يخاطب به أحدًا، أو لعله يكتبه في مذكرات خاصة.
حسن، فإذا لاحت في عالم الحقيقة فكرة وأراد أن يوصلها للناس فماذا يفعل؟ نظر إليه الدكتور بشيء من الدهشة وهو يقول:
من الذي أراد؟
عالم الحقيقة.
ردد الدكتور في دهشة واستنكار:
عالم الحقيقة؟!!
أجل، عالم الحقيقة.
سقطت الكلمة الأخيرة في أعماقي، ومن حيث استقرت انطلق شيء كالشهاب المحرق حتى ملأ صدري ثم صعد إلى حلقي .. وتحركت رأسي، نظرت إليه سريعا، واقتحمت الحوار بجرأة:
أنت كاذب مخادع.
إنك تصفني!
لم أدر لم قال هذه العبارة بالذات، ولكنني قلت في حدة:
نعم أصفك، أنت مخادع ومضلل.
قال وقد لمعت عيناه:
لو تأملت قليلا لعلمت أنك أصلح للوصف مني.
صرختُ، ولكن الصرخة احتبست في حلقي، وتحولتْ إلى دموع ترقرقت في عينيّ، وازدردت ريقي، وقلت بصوت محتبس:
أنا أثق الآن في أنك مخادع.
لا زلتَ تصف ما لا يوصف!
ومن الذي يستحق أنْ يوصفَ إذنْ؟
أنت.
ولمه؟
هذا ما تقرر في عالم الحقيقة.
لا يوجد عالم اسمه عالم الحقيقة.
فمن أين تولد أفكار الناس؟
من ذواتهم.
ضحك ضحكة عالية، وكانت أمواج الهمهمات تتوالى بين ارتفاع وانخفاض حتى كانت ضحكته فساد صمت، وتنحنحت حتى تذهبَ حبستي، وقال:
لو كان هذا لاستوى الناس في كل شيء.
ماذا تعني؟
ألم تفهم بعد؟!
أرسلتُ طرفي إلى السماء عبر النافذة الكبيرة. كانت الشمس قد بدأت تظهر، والسحب الكثيفة تتهادى ببطء في رحلة أُمِرَتْ بها، احتجبت الشمس قليلا ثم ظهرت، ثم احتجبت فترة أقل ثم ظهرت وبدا النهار ساطعًا والشمس في ساعة الزوال. تنفست بعمق، وشعرت أن نفسي تجتمع وتتضامُّ وكأنني أسترد حالتي التي كنت أعهدها. وتذكرته وكأنني قد نسيته، وانتابتني رغبة في مصافحته وعناقه. نظرت إلى حيث يقف، لم أجده، تلفتُّ حولي، لم أرَ إلا وجوهَ الطلاب والطالبات قد كساها الذهول والعجب، وهمهماتهم تعلو، والسحب تبتعد، والتفت إلى مقعد الدكتور فلم أجد أحدًا. نظرت هنا وهناك، شعرت بالشمس تبعث أشعتها حاملة رسائل الدفء إلى عروقي، وأحسست أنه يبتسم بفمي.
الأربعاء، 14 سبتمبر 2011
الجمعة، 27 مايو 2011
موقف اليهود من الخلافة العثمانية ودورهم في إسقاط الخلافة
مدخل:
ما من شك في أنَّ الخلافة العثمانية كانت تمثل مظهرا مهما من مظاهر الوحدة بين المسلمين، تلك الوحدة التي تؤرق أعداءهم في كل مكان، وتجعلهم في خوف وترقب دائمين من هذا المارد، ومعلوم أنَّ اليهود من ألد أعداء الإسلام والمسلمين على مر التاريخ، ومن ثم وجدناهم يحاولون بكل السبل إضعاف مؤسسة الخلافة حتى انتهى الأمر إلى إسقاطها بالكلية، وها نحن في هذه الأيام نشهد آثار هذا السقوط المؤلمة من ضعف وتمزق وإذلال، فكيف تم لليهود هذا الكيد؟
اليهود والخلافة العثمانية:
«في أواخر القرن التاسع الهجري الموافق لأواخر القرن السادس عشر الميلادي وصلت إلى تركيا أعداد كبيرة جدا من اليهود قادمة من إسبانيا على إثر ما لقوه من اضطهاد على يد المسيحيين الأسبان الذين تولوا حكم البلاد بعد أن أفل نجم المسلمين من سماء الأندلس».
وذلك بناء على طلب تقدم به مجموعة من حاخامي اليهود المطرودين من إسبانيا إلى السلطان بايزيد الثاني لكي يسمحلهم بالهجر إلى الدولة العثمانية، ففتح لهم السلطان أبواب دولته على مصاريعها وأصدر أوامره إلى حكام الأقاليم بعدم رفض اليهود أو وضع العقبات أمامهم.
استقر اليهود في العديد من المدن الرئيسة مثل استانبول وأدرنه وإزمير وسلانيك. وقد سمح العثمانيون لليهود بالمشاركة في جميع جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، فكان منهم المستشارون والأطباء والتجار والأدباء.
ومع هذا لم يحفظ اليهود هذا الجميل بل راحوا يعملون في الخفاء على تخريب ديار الدولة وتشويه سمعة رجالها والسيطرة على أموالها وم نثم تقويض أركانها.
وأخطر ما في الأمر أنهم قاموا بهذه الأعمال تحت لباس الإسلام ؛ إذ تظاهروا بالدخول في الإسلام حتى يتمكنوا من ترويج كذبهم وخداعهم على المسلمين، وذلك تنفيذا لوصية زعيمهم الروحي سباتاي زفي، حتى إنَّ الأتراك قد أطلقوا على هذه الطائفة اسم (الدونما)، أي العائدون اعتقادا منهم بأن هؤلاء اليهود قد هداهم الله فعادوا كما فطرهم مسلمين، ولم يخطر ببالهم أنهم إزاء قيام فرقة يهودية خطيرة سيكون لها دور ضليع في إضعاف دولتهم وتقويض أركانها.
وكلمة (الدونما) تستعمل كصفة مشتقة منم المصدر التركي (دونمك donmek) بمعنى الرجوع أو العودة أو الارتداد. [أحمد نوري النعيمي: يهود الدونمة ص8].
وكان هدف يهود الدونما هو القضاء على الدولة الإسلامية التي يرونها حجر عثرة في سبيل تحقيق حلمهم بإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين كما وعدهم سباتاي. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف راح الدونما يتغلغلون في شعاب البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والثقافية للدولة العثمانية حتى تمكنوا من إحكام قبضتهم عليها بعد زمن طويل من العمل الجاد، فكانوا بعد ذلك على أهبة الاستعداد لتقديم العون لكافة القوى الداخلية والخارجية المعادية للدولة العثمانية.
***
أساليب تآمر اليهود ضد الدولة العثمانية:
1- مناوأة السلطان عبد الحميد الثاني أقوى سلاطين المرحلة:
لعبت المحافل الماسونية مع يهود الدونمة دورا مؤثرا في التخطيط لخلع السلطان عبد الحميد الثاني، وكانت بمثابة العقل المدبر، كما كانت الدول الأجنبية بمنزلة الممول لأنه كان لها نفوذ كبير في أوساط الباب العالي وبين الأتراك الشبان، وهناك أدلة كثيرة تؤكد الارتباط الوثيق بين الصهيونية والماسونية، وتؤكد أن الماسونية هي من إفرازات الحركة الصهيونية، وهذا ما تثبته دائرة المعارف الأمريكية عام 1906م، ودائرة المعارف اليهودية، وبعض الصحف اليهودية الصادرة في فترات وسنوات متفاوتة.
في عام 1889م شكل جماعة من طلبة المدرسة الطبية العسكرية الامبراطورية في استانبول منظمة سرية هدفها الواضح عزل السلطان عبد الحميد الثاني، وكان وراء هذا التشكيل السري رجل ماسوني من ألبانيا اسمه (إبراهيم تيمو) أو (أدهم)، وقد باشرت أعمالها منذ عام 1891م في جينيف أولا ثم نقلوها إلى باريس، وكانوا يعملون على نشر دعوتهم سرا، واتخذوا لذلك طريق الجيش لبث أفكارهم، وأصدروا مجلة (عثمانلي) في جينيف لمحاربة السلطان عبد الحميد وتأليب الرأي العام عليه وذلك لكسب مؤيدين لتنظيمهم، وقد عرف هذا التنتظيم باسم الاتحاد والترقي وهو فرع لحزب تركيا الفتاة، وقد دأب أعضاء هذه الجماعة على عقد اجتماعاتهم السرية في المحافل الماسونية.
وكانوا يطبعون المنشورات المناوئة للسلطان في الخارج ثم يسربونها إلى داخل تركيا عن طريق سفارات الدول الأوروبية وقنصلياتها التي كانت مصونة من مراقبة الدولة العثمانية بسبب الامتيازات الأجنبية.
وفي عام 1896م عقد في فيينا مؤتمر دعت إليه جمعية الاتحاد والترقي اشترك فيه الأرمن واليونان والمقدونيون والعرب واليهود وبقية الأقليات، وبقية الأقليات ، وقرروا فيه خلع السلطان وقلب نظام الحكم.
وقد عمد أعضاء الجماعة إلى الولايات البعيدة كمصر الواقعة تحت النفوذ البريطاني للمارسة نشاطهم بعيدا عن قبضة السلطان عبد الحميد الحديدية ، حتى إنهم أنشأوا بمصر مطبعة لطبع منشوراتهم التي تعبر عن توجهاتهم، ولكن ظلت سالونيك المركز الأساسي والأمين لنشاطهم السياسي والعسكري على السواء.
وفي أوائل القرن العشرين رأت الجمعية ضرورة استمالة أقرباء السلطان، لتقوية شوكتها ودعم مطالبها، ومن هؤلاء الذين استمالتهم محمود باشا صهر السلطان الذي فر من الآستانة وصرح في أوروبا بأنه: «موافق على حركات تركيا الفتاة، وأن في عزمه أن يطبع رسالة يفصل فيها دسائس السلطان وحاشيته في يلديز ... وأن نشرياته ستكون واسطة لانضمام كثير من الأهالي مع حزب تركيا الفتاة، وتكون نتيجة ذلك إحداث انقلابات أساسية في الآستانة».
وبدأت أفكار (تركيا الفتاة) تنتشر داخل وخارج الامبراطورية في الفترة من 1902- 1907م، وعقد في عام 1907م مؤتمر (كامبل بانرمان) كان من مقرراته إجبار السلطان عبد الحميد على ترك العرش، وكان لليهود نفوذ قوي في أوساط جمعية الاتحاد والترقي، استغلوه في التخلص من السلطان عبد الحميد الذي رفض إعطاء فلسطين لليهود، وقد كانت السيطرة على فلسطين أمرا عسيرا من الناحية العسكرية والسياسية، لذا كان من مقررات هذا المؤتمر أيضا زرع الشعب اليهودي في فلسطين، إذ كان من الطبعي أن تستغل الحركة الصهيونية المؤتمرات والثورات والانقلابات ضد الحكم العثماني.
وفي عام 1908 اتسعت جمعية الاتحاد والترقي وتفاقم خطرها خاصة بعد دخول اليهود في عضويتها، ودخول يهود الدونمة المتسترين المقيمين في سالونيك ، حتى قامت بثورتها ضد السلطان عبد الحميد في 23يوليو 1908.
ويذكر القائد التركي جواد رفعت أتلخان المعاصر للسلطان عبد الحميد أن الهدف من ثورة 1908 هو أن الصهيونيين يريدون تجريد السلطان عبد الحميد من سلطنته وثروته وأملاكه انتقاما منه ولعدم إفساح المجال له للقيام ضدهم ثانيةً، ويضيف في كتابه (الإسلام وبنو إسرائيل) «أن اليهود هم الذين نشروا الفوضى في داخلية البلاد، ونظموا القوى المناهضة للحكم التركي بقصد تحطيم الامبراطورية العثمانية، وسلحوا أعضاء تركيا الفتاة في الخارج، ونظموا صفوفهم وأمدوهم بالأموال».
هذا ويمكن القول بأن اليهود لعبوا دورا فعالا في ثورة 1908، ويؤكد (ستون واتسون) هذه الحقيقة بقوله: «إنَّ أصحاب العقول المحركة لثورة الاتحاد والترقي عام 1908 كانوا يهودًا ومن الدونمة، واما المساعدات المالية فإنما كانت تجيئهم عن طريق الدونمة ويهود سالونيك المتمولين».
ويعترف المؤرخ الصهيوني (Kallen) بأن أكثر أعضاء جمعية الاتحاد والترقي بأن أكثر أعضاء جمعية الاتحاد والترقي كانوا من الدونمة.
وكان نتيجة هذه الثورة إعلان الدستور وإعادة مجلس المبعوثان وإجراء الانتخابات، التي أدت بدورها إلى تصعيد عناصر من جمعية الاتحاد والترقي إلى المجلس، وتداعت الأحداث حتى كان عزل السلطان عبد الحميد الثاني في 1909، وقد كان هذا السلطان حجر عثرة أمام أطماع الصهيونية من ناحية ، وصمام أمان لكيان الدولة العثمانية من ناحية أخرى، ومن ثم يمكن القول بأن عزل السلطان عبد الحميد يعد الخطوة الأولى في طريق إسقاط الخلافة العثمانية.
2- إرباك الدولة ماديا وإيقاعها تحت طائلة الديون وفرض الوصاية عليها
رأى اليهود أن إرباك الدولة العثمانية بالديون سيكون وسيلة قوية لإجبار حكامها على أن يسمحوا لهم بتنفيذ مشاريعهم الاستيطانية، لذا نجد اليهود وحلفاءهم الأوروبيين قد عمدوا إلى استنزاف موارد الدولة عن طريق إثارة الفتن والقلاقل في الداخل، وإضرام نار الحروب في الخارج.
ولقد اتفق الكثير من المؤرخين والمحللين الاقتصاديين على أن أهم أسباب الارتباك المادي الذي عانت منه الدولة العثمانية في عهودها المتأخرة عائد إلى كثرة الحروب التي افتعلها أعداؤها وأقحمت فيها.
وقد أتاحت تلك الديون الفرصة للدول الأجنبية الدائنة للتدخل في شئون الدولة الداخلية عن طريق مراقبيهم الماليين الذين فرضتهم على الدولة العثمانية.
ونسوق مثالا على دور اليهود في هذا الإرباك المادي المؤدي إلى التدخل الأجنبي ما قام به الصدر الأعظم مدحت باشا وهو من يهود الدونمة وعميل للإنجليز من إقناع السلطان عبد العزيز بأهمية إصدار فرمان يمنح خديوي مصر (إسماعيل باشا) حقَّ الاقتراض من الخارج، في عام 1289هـ-1872م، وبذلك أتاح مدحت باشا لأربابه الإنجليز ليستغلوا إسراف الخديوي إسماعيل ورعونته، حيث أغرق مصر بالديون الخارجية، ثم طرح أسهمها في قناة السويس للبيع، فسارع رئيس وزراء بريطانيا اليهودي (دزرائيلي) بشراء تلك الأسهم، وقد كان للبارون اليهودي البريطاني (روتشلد) فضل كبير في تمويل تلك الصفقة السياسية التي حققت لبريطانيا مزيدًا من الضمانات لسلامة مستعمراتها القديمة. بل أدى استغلال هذه الضائقة في نهاية الأمر إلى اقتطاع مصر من جسد الإمبراطورية العثمانية باحتلال بريطانيا لها في عام 1882م.
***
مصطفى كمال وإسقاط الخلافة:
ولد مصطفى كمال في سالونيك عام 1298هـ/1880م. وهو من يهود الدونمة، تخرج في السابعة عشرة من عمره في المدرسة العسكرية بسالونيك، وأرسل إلى المدرسة العسكرية العليا في موناستر حيث يوجد المحفل الماسوني الإنجليزي الذي اجتذبه فأصبح من أكثر أعضائه ولاءً. كما كانت مونستر تعج بالأجانب الذين يبذلون قصارى جهدهم في إثارة الفتن وإشاعة روح السخط ضد السلطان عبد الحميد الثاني، فتشرب مصطفى كمال تلك الأفكار وتحول إلى مروج لها.
ثم انتقل إلى الأكاديمية الحربية في استنابول حيث ازداد اهتمامه بالسياسة واتضحت ميوله الثورية، كما أخذ يقضي أوقاتا طويلة في أماكن اللهو والمجون يقامر ويشرب الخمر ويمارس كل الموبقات والرذائل حتى أثر ذلك على صحته.
ثم التحق بكلية الأركان وتخرج فيها برتبة رائد عام 1905م، فعين في لواء الفرسان المرابط في دمشق، وهناك أسس جمعية ثورية باسم (جمعية الوطن) تعارض السلطان عبد الحميد وتتهمه بالطغيان، وتهاجم علماء الدين الذين يعارضون الإصلاح على الطريقة الغربية.
ولما رأى معارضة أهل دمشق لأفكاره سعى جاهدًا لكي ينقل إلى موطنه موطنِ القلاقل سالونيك، وتحقق له ذلك في عام 1907 حيث عين في دائرة الأركان في الجيش الثالث الموجود بها، وفيما كان يخطط لإنشاء جمعية ثورية على غرار الجمعية التي أنشاها في دمشق لاحظ وجود جمعية سرية كبيرة جدا قد انتشر نشاطها بين معظم أفراد وضباط الجيش الثالث في سالونيك أُطلِق عليها جمعية الاتحاد والترقي، وقد وجه بعض الضباط من أعضاء هذه الجمعية الدعوة لمصطفى كمال للانضمام إليها؛ إذ كانت تجمعهم به زمالة قديمة عرفوا من خلالها ميولَه الثورية.
ونظرا لشخصية مصطفى كمال المتسلطة فقد حرص قادة الحركة على أن يظل خارج نطاق الدائرة الضيقة التي تدير أعمال الجمعية، إلا أنه كان واحدا في جيش الضباط الذي شارك في التصدي للثورة المضادة للحركة في استانبول سنة 1909، فاحتلها وخلع السلطان عبد الحميد.
إلا أن مشاركة مصطفى كمال في هذا الجيش لم تعد عليه بالثمرة التي يرجوها إذ رجع بعدها إلى سالونيك للمارسة عمله العسكري كما كان، فجعله هذا يمتلئ حقدا على قادة الحركة الذين استأثروا بالحكم والشهرة، مما دفعه إلى أن ينظم اجتماعات سرية مع بعض الضباط الحانقين على زعماء الثورة للسبب نفسه، وعندما اكتشف زعماء الجمعية تحركاته اتهموه بتحريض الجنود على الثورة وجعلوه تحت المراقبة.
وفي محاولة من الاتحاديين لإبعاده والتخلص منه عين ملحقا عسكريا في العاصمة البلغارية (صوفيا) وهناك بُهر بالحياة الغربية وافتتن بمعاييرها الاجتماعية خاصة ما يتعلق باختلاط الرجال بالنساء، فأهمل عمله الذي كلف به وغرق في اللهو.
وعندما قامت الحرب العالمية الأولى أرسل إلى أنور باشا وزير الحربية يطلب منه أن يُسنِد إليه القيادة في إحدى الجبهات وبعد إلحاح منه كلفه الوزير ببعض المهام الحربية، فعين قائدا للجيش السابع في الجبهة السورية، وهناك ادعى المرض ولزم فراشه حتى بدأ الهجوم الإنجليزي ثم أصدر أوامره المفاجئة بالانسحاب شمالا نحو دمشق متيحًا بذلك الفرصة للعدو ليتقدم شمالا دون عناء ويتمكن من هزيمة بقية قطاعات الجيش في تلك الجبهة لحرمانها من مساندة الجيوش التي تحت إمرته.
وهذا التصرف ينبئ عن وجود اتفاق مسبق بينه وبين الإنجليز ومما يدل على ذلك اتصاله بضابط المخابرات الإنجليزي لورنس عندما كان في الشام.
وهذه الخيانة العظيمة للدولة العثمانية كانت وراء اختيار الإنجليز له لكي ينفذ مخطط إسقاط الخلافة العثمانية.
فقد أوعزوا إلى عملائهم في الحكومة العثمانية لتقريبه من السلطان محمد وحيد الدين، وترشيحه لتولي قيادة تلك الثورة الوطنية التي قامت في الأناضول فيأعقاب هدنة (مدروس) في الوقت الذي كانوا يظهرون فيه الحرصَ على إخماد تلك الثورة.
وما أن وصل إلى منطقة قيادة الثورة الوطنية بعد أن ندبه السلطان لذلك حتى راح يتنكر له ويعلن أمام الجماهير الثائرة أنَّ السلطان صار ألعوبةً في أيدي الإنجليز ويصوره لهم رمزا للهزيمة والتفريط في حقوق البلاد.
وسعى جاهدا إلى أن يضم إلى صفه كبار قواد الجيش في الأناضول، وقد منحته صلاحيات عمله الواسعة بوصفه مفتشا عاما لجيوش الأناضول القوة في هذا المجال، كما وضع خطةً لإثارة عامة الشعب في تلك المنطقة، فكان يطوف بالقرى ويعقد الاجتماعات ويردد: «لقد قرر العدو أن يدمر تركيا وطننا ... وبات السلطان ـ خليفتكم ـ مسلوب الحول والقوة أسيرًا في ايدي الإنجليز ... يجب أنْ تُنقِذوا أنفُسَكم بأنفُسِكم». حتى تمكن من إشاعة جو من الحماسة القومية خدع به الجماهير الثائرة، ثم عقد مؤتمرًا عاما في مدينة سيواس ووجه الدعوة لحضوره إلى جميع منظمات المقاومة.
وعندما وصلت أنباء تلك التحركات إلى إستانبول أرسلت وزارة الحربية إلى مصطفى كمال استدعاءً للحضور إلى العاصمة، لكنه لم يحضر، وتكرر الاستدعاء والتجاهل من جانبه، وبدأ الإنجليز في لعب دورهم إذ أبدوا اعتراضَهم على الثورة وطالبوا بخلع مصطفى كمال من منصبه مهددين بالتدخل العسكري، وبالفعل تمت إقالته.
واستطاع مصطفى كمال أن يُقنِعَ كبار القواد العسكريين وممثلي منظمات المقاومة في مؤتمر عقده في مدينة (أرضروم) في 23يوليو 1919م – بضرورة تأليف حكومة مؤقتة تُنْتَخَب في مؤتمر قومي عام، يقصد مؤتمر سيواس المنتظر، لتتولَّى تصريفَ شئون البلاد ومقاومة الاحتلال بدعوَى أنَّ الحكومة الشرعية واقعة تحت سيطرة الأعداء، كما استطاع الحصول على موافقتهم على اختياره رئيسًا للجنة التي ستتولى تنفيذ قرارات هذا المؤتمر، وتمثيلهم في مؤتمر سيواس بعد أن وعدهم بألا يقدم على شيء فيه إساءة للسلطان.
ثم عقد مؤتمر سيواس في 4سبتمبر 1919، على الرغم من جهود الحكومة العثمانية لمنع انعقاده، وحضره مندوبون من جميع أنحاء البلاد، والنتُخِبَ مصطفى كمال رئيسًا له لكونه رئيس اللجنة التمثيلية لمؤتمر أرضروم، واستطاع إقناع المؤتمرين بالموافقة على قرارات مؤتمر ارضروم، وتشكيل لجنة تنفيذية للتولى عمل الحكومة المؤقتة، وانتخابه رئيسًا لها، ولكنهم اشترطوا عليه أيضًا عدم مواجهة الحكومة الشرعية بالعداء وعدم تعريض البيلاد لحرب أهلية، واتفقوا على إطلاق اسم (الميثاق الوطني) على قرارات مؤتمر سيواس.
وبدأ بعد ذلك بقطع وسائل الاتصال بين الأناضول وإستانبول، وأمرَ بتحويل جميع الإيرادات والمراسلات إليه وأشعر جميع الدوائر الرسمية في الأناضول بأنها ستكون مرتبطة به.
ثم أرسل إلى السلطان يطلب منه إقالة الصدر الأعظم وحل البرلمان وإجراء انتخابات، وأوعز إلى أنصاره أن يرسلوا إلى السلطان مؤيدين طلبه، فاضطر السلطان للموافقة، وأسفرت نتائج الانتخابات الجديدة عن وصول عدد كبير من أنصاره إلى البرلمان، ولكنهم لم يوافقوه على نقل مقر البرلمان إلى أنقره، وافتتح المجلس النيابي بعد أن خذل أنصار مصطفى كمال المنتخبون فيه أطماعَه في انْ يكونوا أداةً يتحكم فيها للوصول إلى مآربه.
وهنا بدأ تدخل الإنجليز لدعم موقف عميلهم مصطفى كمال، ففي 19مارس 1920قام الإنجليز بإعلان احتلال إستانبول رسميًّا بحجة عدم وضع حد لنشاط قوى المقاومة المناوئة لهم، وألقوا القبض على عدد من النواب وأغلقوا مقر البرلمان.
وهنا هب مصطفى كمال يستثير حمية الشعب للدفاع عن دار الخلافة فأبرق إلى النواب الذين فروا من الاعتقال لإقامة مجلس نيابي جديد في أنقرة.
وكان من الطبيعي عندما وصلت الأنباء إلى إستانبول أن يتحرك السلطان لوضع حد لهذا المارق الذي استطال شره، وكان قد تجنب الاصطدام به طويلا خشية قيام حرب أهلية، ولكن لم يعد هناك مجال للصبر، لذا فقد كلف وزير الحربية بإرسال قوات عسكرية لتعقب الثوار والقضاء عليهم، واعلن نداءً إلى الشعب يطلب مؤازرته في التصدي لهؤلاء المارقين.
وكادت جيوش الخليفة تنتصر لولا تحرك الإنجليز لإنقاذ عميلهم اليهودي، إذ أعلنوا شروط معاهدة (سيفر) التي وقع عليها الخليفة، وهي شروط مذلة أشعلت نار الغضب على الخليفة ووزرائه في نفوس الشعب، كما عملوا من جهة أخرى على تصوير مصطفى كمال بصورة البطل المجاهد، من خلال إيعازهم أولا لرئيس الوزراء اليوناني بالتوغل في غرب تركيا بقواته، ثم دعمهم لمصطفى كمال في صد هذه القوات اليونانية في تمثيلية حقيرة كان من نتائجها اجتياح الثقرى التركية المسلمة وحرقها، وحصول مصطفى كمال على صلاحيات كبيرة من المجلس النيابي، وتصويره بصورة البطل القومي.
وتم الاعتراف بعد ذلك من دول أوروبية بحكومة أنقرة، وفي غمرة تهنئته بالنصر الزائف نفذ مصطفى كمال الجزء الأخير من المخطط، وأعلن قيام الجمهورية التركية وإلغاء الخلافة الإسلامية، متنكرا لكل القيم الإسلامية التي لم يؤمن بها يومًا، ومحققا هدفا سعى إليه اليهود والقوى الاستعمارية على مدى عشرات السنين.
***
المراجع:
1- دور اليهود في إسقاط الدولة العثمانية، رسالة جامعية من إعداد هيلة بنت سعد بن محمد السليمي، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة أم القرى – المملكة العربية السعودية، عام 1422هـ-2001م.
2- دور اليهود والقوى الدولية في خلع السلطان عبد الحميد الثاني عن العرش (1908-1909)، الدكتور حسان على حلاق، الدار الجامعية للطباعة والنشر- بيروت.
ما من شك في أنَّ الخلافة العثمانية كانت تمثل مظهرا مهما من مظاهر الوحدة بين المسلمين، تلك الوحدة التي تؤرق أعداءهم في كل مكان، وتجعلهم في خوف وترقب دائمين من هذا المارد، ومعلوم أنَّ اليهود من ألد أعداء الإسلام والمسلمين على مر التاريخ، ومن ثم وجدناهم يحاولون بكل السبل إضعاف مؤسسة الخلافة حتى انتهى الأمر إلى إسقاطها بالكلية، وها نحن في هذه الأيام نشهد آثار هذا السقوط المؤلمة من ضعف وتمزق وإذلال، فكيف تم لليهود هذا الكيد؟
اليهود والخلافة العثمانية:
«في أواخر القرن التاسع الهجري الموافق لأواخر القرن السادس عشر الميلادي وصلت إلى تركيا أعداد كبيرة جدا من اليهود قادمة من إسبانيا على إثر ما لقوه من اضطهاد على يد المسيحيين الأسبان الذين تولوا حكم البلاد بعد أن أفل نجم المسلمين من سماء الأندلس».
وذلك بناء على طلب تقدم به مجموعة من حاخامي اليهود المطرودين من إسبانيا إلى السلطان بايزيد الثاني لكي يسمحلهم بالهجر إلى الدولة العثمانية، ففتح لهم السلطان أبواب دولته على مصاريعها وأصدر أوامره إلى حكام الأقاليم بعدم رفض اليهود أو وضع العقبات أمامهم.
استقر اليهود في العديد من المدن الرئيسة مثل استانبول وأدرنه وإزمير وسلانيك. وقد سمح العثمانيون لليهود بالمشاركة في جميع جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، فكان منهم المستشارون والأطباء والتجار والأدباء.
ومع هذا لم يحفظ اليهود هذا الجميل بل راحوا يعملون في الخفاء على تخريب ديار الدولة وتشويه سمعة رجالها والسيطرة على أموالها وم نثم تقويض أركانها.
وأخطر ما في الأمر أنهم قاموا بهذه الأعمال تحت لباس الإسلام ؛ إذ تظاهروا بالدخول في الإسلام حتى يتمكنوا من ترويج كذبهم وخداعهم على المسلمين، وذلك تنفيذا لوصية زعيمهم الروحي سباتاي زفي، حتى إنَّ الأتراك قد أطلقوا على هذه الطائفة اسم (الدونما)، أي العائدون اعتقادا منهم بأن هؤلاء اليهود قد هداهم الله فعادوا كما فطرهم مسلمين، ولم يخطر ببالهم أنهم إزاء قيام فرقة يهودية خطيرة سيكون لها دور ضليع في إضعاف دولتهم وتقويض أركانها.
وكلمة (الدونما) تستعمل كصفة مشتقة منم المصدر التركي (دونمك donmek) بمعنى الرجوع أو العودة أو الارتداد. [أحمد نوري النعيمي: يهود الدونمة ص8].
وكان هدف يهود الدونما هو القضاء على الدولة الإسلامية التي يرونها حجر عثرة في سبيل تحقيق حلمهم بإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين كما وعدهم سباتاي. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف راح الدونما يتغلغلون في شعاب البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والثقافية للدولة العثمانية حتى تمكنوا من إحكام قبضتهم عليها بعد زمن طويل من العمل الجاد، فكانوا بعد ذلك على أهبة الاستعداد لتقديم العون لكافة القوى الداخلية والخارجية المعادية للدولة العثمانية.
***
أساليب تآمر اليهود ضد الدولة العثمانية:
1- مناوأة السلطان عبد الحميد الثاني أقوى سلاطين المرحلة:
لعبت المحافل الماسونية مع يهود الدونمة دورا مؤثرا في التخطيط لخلع السلطان عبد الحميد الثاني، وكانت بمثابة العقل المدبر، كما كانت الدول الأجنبية بمنزلة الممول لأنه كان لها نفوذ كبير في أوساط الباب العالي وبين الأتراك الشبان، وهناك أدلة كثيرة تؤكد الارتباط الوثيق بين الصهيونية والماسونية، وتؤكد أن الماسونية هي من إفرازات الحركة الصهيونية، وهذا ما تثبته دائرة المعارف الأمريكية عام 1906م، ودائرة المعارف اليهودية، وبعض الصحف اليهودية الصادرة في فترات وسنوات متفاوتة.
في عام 1889م شكل جماعة من طلبة المدرسة الطبية العسكرية الامبراطورية في استانبول منظمة سرية هدفها الواضح عزل السلطان عبد الحميد الثاني، وكان وراء هذا التشكيل السري رجل ماسوني من ألبانيا اسمه (إبراهيم تيمو) أو (أدهم)، وقد باشرت أعمالها منذ عام 1891م في جينيف أولا ثم نقلوها إلى باريس، وكانوا يعملون على نشر دعوتهم سرا، واتخذوا لذلك طريق الجيش لبث أفكارهم، وأصدروا مجلة (عثمانلي) في جينيف لمحاربة السلطان عبد الحميد وتأليب الرأي العام عليه وذلك لكسب مؤيدين لتنظيمهم، وقد عرف هذا التنتظيم باسم الاتحاد والترقي وهو فرع لحزب تركيا الفتاة، وقد دأب أعضاء هذه الجماعة على عقد اجتماعاتهم السرية في المحافل الماسونية.
وكانوا يطبعون المنشورات المناوئة للسلطان في الخارج ثم يسربونها إلى داخل تركيا عن طريق سفارات الدول الأوروبية وقنصلياتها التي كانت مصونة من مراقبة الدولة العثمانية بسبب الامتيازات الأجنبية.
وفي عام 1896م عقد في فيينا مؤتمر دعت إليه جمعية الاتحاد والترقي اشترك فيه الأرمن واليونان والمقدونيون والعرب واليهود وبقية الأقليات، وبقية الأقليات ، وقرروا فيه خلع السلطان وقلب نظام الحكم.
وقد عمد أعضاء الجماعة إلى الولايات البعيدة كمصر الواقعة تحت النفوذ البريطاني للمارسة نشاطهم بعيدا عن قبضة السلطان عبد الحميد الحديدية ، حتى إنهم أنشأوا بمصر مطبعة لطبع منشوراتهم التي تعبر عن توجهاتهم، ولكن ظلت سالونيك المركز الأساسي والأمين لنشاطهم السياسي والعسكري على السواء.
وفي أوائل القرن العشرين رأت الجمعية ضرورة استمالة أقرباء السلطان، لتقوية شوكتها ودعم مطالبها، ومن هؤلاء الذين استمالتهم محمود باشا صهر السلطان الذي فر من الآستانة وصرح في أوروبا بأنه: «موافق على حركات تركيا الفتاة، وأن في عزمه أن يطبع رسالة يفصل فيها دسائس السلطان وحاشيته في يلديز ... وأن نشرياته ستكون واسطة لانضمام كثير من الأهالي مع حزب تركيا الفتاة، وتكون نتيجة ذلك إحداث انقلابات أساسية في الآستانة».
وبدأت أفكار (تركيا الفتاة) تنتشر داخل وخارج الامبراطورية في الفترة من 1902- 1907م، وعقد في عام 1907م مؤتمر (كامبل بانرمان) كان من مقرراته إجبار السلطان عبد الحميد على ترك العرش، وكان لليهود نفوذ قوي في أوساط جمعية الاتحاد والترقي، استغلوه في التخلص من السلطان عبد الحميد الذي رفض إعطاء فلسطين لليهود، وقد كانت السيطرة على فلسطين أمرا عسيرا من الناحية العسكرية والسياسية، لذا كان من مقررات هذا المؤتمر أيضا زرع الشعب اليهودي في فلسطين، إذ كان من الطبعي أن تستغل الحركة الصهيونية المؤتمرات والثورات والانقلابات ضد الحكم العثماني.
وفي عام 1908 اتسعت جمعية الاتحاد والترقي وتفاقم خطرها خاصة بعد دخول اليهود في عضويتها، ودخول يهود الدونمة المتسترين المقيمين في سالونيك ، حتى قامت بثورتها ضد السلطان عبد الحميد في 23يوليو 1908.
ويذكر القائد التركي جواد رفعت أتلخان المعاصر للسلطان عبد الحميد أن الهدف من ثورة 1908 هو أن الصهيونيين يريدون تجريد السلطان عبد الحميد من سلطنته وثروته وأملاكه انتقاما منه ولعدم إفساح المجال له للقيام ضدهم ثانيةً، ويضيف في كتابه (الإسلام وبنو إسرائيل) «أن اليهود هم الذين نشروا الفوضى في داخلية البلاد، ونظموا القوى المناهضة للحكم التركي بقصد تحطيم الامبراطورية العثمانية، وسلحوا أعضاء تركيا الفتاة في الخارج، ونظموا صفوفهم وأمدوهم بالأموال».
هذا ويمكن القول بأن اليهود لعبوا دورا فعالا في ثورة 1908، ويؤكد (ستون واتسون) هذه الحقيقة بقوله: «إنَّ أصحاب العقول المحركة لثورة الاتحاد والترقي عام 1908 كانوا يهودًا ومن الدونمة، واما المساعدات المالية فإنما كانت تجيئهم عن طريق الدونمة ويهود سالونيك المتمولين».
ويعترف المؤرخ الصهيوني (Kallen) بأن أكثر أعضاء جمعية الاتحاد والترقي بأن أكثر أعضاء جمعية الاتحاد والترقي كانوا من الدونمة.
وكان نتيجة هذه الثورة إعلان الدستور وإعادة مجلس المبعوثان وإجراء الانتخابات، التي أدت بدورها إلى تصعيد عناصر من جمعية الاتحاد والترقي إلى المجلس، وتداعت الأحداث حتى كان عزل السلطان عبد الحميد الثاني في 1909، وقد كان هذا السلطان حجر عثرة أمام أطماع الصهيونية من ناحية ، وصمام أمان لكيان الدولة العثمانية من ناحية أخرى، ومن ثم يمكن القول بأن عزل السلطان عبد الحميد يعد الخطوة الأولى في طريق إسقاط الخلافة العثمانية.
2- إرباك الدولة ماديا وإيقاعها تحت طائلة الديون وفرض الوصاية عليها
رأى اليهود أن إرباك الدولة العثمانية بالديون سيكون وسيلة قوية لإجبار حكامها على أن يسمحوا لهم بتنفيذ مشاريعهم الاستيطانية، لذا نجد اليهود وحلفاءهم الأوروبيين قد عمدوا إلى استنزاف موارد الدولة عن طريق إثارة الفتن والقلاقل في الداخل، وإضرام نار الحروب في الخارج.
ولقد اتفق الكثير من المؤرخين والمحللين الاقتصاديين على أن أهم أسباب الارتباك المادي الذي عانت منه الدولة العثمانية في عهودها المتأخرة عائد إلى كثرة الحروب التي افتعلها أعداؤها وأقحمت فيها.
وقد أتاحت تلك الديون الفرصة للدول الأجنبية الدائنة للتدخل في شئون الدولة الداخلية عن طريق مراقبيهم الماليين الذين فرضتهم على الدولة العثمانية.
ونسوق مثالا على دور اليهود في هذا الإرباك المادي المؤدي إلى التدخل الأجنبي ما قام به الصدر الأعظم مدحت باشا وهو من يهود الدونمة وعميل للإنجليز من إقناع السلطان عبد العزيز بأهمية إصدار فرمان يمنح خديوي مصر (إسماعيل باشا) حقَّ الاقتراض من الخارج، في عام 1289هـ-1872م، وبذلك أتاح مدحت باشا لأربابه الإنجليز ليستغلوا إسراف الخديوي إسماعيل ورعونته، حيث أغرق مصر بالديون الخارجية، ثم طرح أسهمها في قناة السويس للبيع، فسارع رئيس وزراء بريطانيا اليهودي (دزرائيلي) بشراء تلك الأسهم، وقد كان للبارون اليهودي البريطاني (روتشلد) فضل كبير في تمويل تلك الصفقة السياسية التي حققت لبريطانيا مزيدًا من الضمانات لسلامة مستعمراتها القديمة. بل أدى استغلال هذه الضائقة في نهاية الأمر إلى اقتطاع مصر من جسد الإمبراطورية العثمانية باحتلال بريطانيا لها في عام 1882م.
***
مصطفى كمال وإسقاط الخلافة:
ولد مصطفى كمال في سالونيك عام 1298هـ/1880م. وهو من يهود الدونمة، تخرج في السابعة عشرة من عمره في المدرسة العسكرية بسالونيك، وأرسل إلى المدرسة العسكرية العليا في موناستر حيث يوجد المحفل الماسوني الإنجليزي الذي اجتذبه فأصبح من أكثر أعضائه ولاءً. كما كانت مونستر تعج بالأجانب الذين يبذلون قصارى جهدهم في إثارة الفتن وإشاعة روح السخط ضد السلطان عبد الحميد الثاني، فتشرب مصطفى كمال تلك الأفكار وتحول إلى مروج لها.
ثم انتقل إلى الأكاديمية الحربية في استنابول حيث ازداد اهتمامه بالسياسة واتضحت ميوله الثورية، كما أخذ يقضي أوقاتا طويلة في أماكن اللهو والمجون يقامر ويشرب الخمر ويمارس كل الموبقات والرذائل حتى أثر ذلك على صحته.
ثم التحق بكلية الأركان وتخرج فيها برتبة رائد عام 1905م، فعين في لواء الفرسان المرابط في دمشق، وهناك أسس جمعية ثورية باسم (جمعية الوطن) تعارض السلطان عبد الحميد وتتهمه بالطغيان، وتهاجم علماء الدين الذين يعارضون الإصلاح على الطريقة الغربية.
ولما رأى معارضة أهل دمشق لأفكاره سعى جاهدًا لكي ينقل إلى موطنه موطنِ القلاقل سالونيك، وتحقق له ذلك في عام 1907 حيث عين في دائرة الأركان في الجيش الثالث الموجود بها، وفيما كان يخطط لإنشاء جمعية ثورية على غرار الجمعية التي أنشاها في دمشق لاحظ وجود جمعية سرية كبيرة جدا قد انتشر نشاطها بين معظم أفراد وضباط الجيش الثالث في سالونيك أُطلِق عليها جمعية الاتحاد والترقي، وقد وجه بعض الضباط من أعضاء هذه الجمعية الدعوة لمصطفى كمال للانضمام إليها؛ إذ كانت تجمعهم به زمالة قديمة عرفوا من خلالها ميولَه الثورية.
ونظرا لشخصية مصطفى كمال المتسلطة فقد حرص قادة الحركة على أن يظل خارج نطاق الدائرة الضيقة التي تدير أعمال الجمعية، إلا أنه كان واحدا في جيش الضباط الذي شارك في التصدي للثورة المضادة للحركة في استانبول سنة 1909، فاحتلها وخلع السلطان عبد الحميد.
إلا أن مشاركة مصطفى كمال في هذا الجيش لم تعد عليه بالثمرة التي يرجوها إذ رجع بعدها إلى سالونيك للمارسة عمله العسكري كما كان، فجعله هذا يمتلئ حقدا على قادة الحركة الذين استأثروا بالحكم والشهرة، مما دفعه إلى أن ينظم اجتماعات سرية مع بعض الضباط الحانقين على زعماء الثورة للسبب نفسه، وعندما اكتشف زعماء الجمعية تحركاته اتهموه بتحريض الجنود على الثورة وجعلوه تحت المراقبة.
وفي محاولة من الاتحاديين لإبعاده والتخلص منه عين ملحقا عسكريا في العاصمة البلغارية (صوفيا) وهناك بُهر بالحياة الغربية وافتتن بمعاييرها الاجتماعية خاصة ما يتعلق باختلاط الرجال بالنساء، فأهمل عمله الذي كلف به وغرق في اللهو.
وعندما قامت الحرب العالمية الأولى أرسل إلى أنور باشا وزير الحربية يطلب منه أن يُسنِد إليه القيادة في إحدى الجبهات وبعد إلحاح منه كلفه الوزير ببعض المهام الحربية، فعين قائدا للجيش السابع في الجبهة السورية، وهناك ادعى المرض ولزم فراشه حتى بدأ الهجوم الإنجليزي ثم أصدر أوامره المفاجئة بالانسحاب شمالا نحو دمشق متيحًا بذلك الفرصة للعدو ليتقدم شمالا دون عناء ويتمكن من هزيمة بقية قطاعات الجيش في تلك الجبهة لحرمانها من مساندة الجيوش التي تحت إمرته.
وهذا التصرف ينبئ عن وجود اتفاق مسبق بينه وبين الإنجليز ومما يدل على ذلك اتصاله بضابط المخابرات الإنجليزي لورنس عندما كان في الشام.
وهذه الخيانة العظيمة للدولة العثمانية كانت وراء اختيار الإنجليز له لكي ينفذ مخطط إسقاط الخلافة العثمانية.
فقد أوعزوا إلى عملائهم في الحكومة العثمانية لتقريبه من السلطان محمد وحيد الدين، وترشيحه لتولي قيادة تلك الثورة الوطنية التي قامت في الأناضول فيأعقاب هدنة (مدروس) في الوقت الذي كانوا يظهرون فيه الحرصَ على إخماد تلك الثورة.
وما أن وصل إلى منطقة قيادة الثورة الوطنية بعد أن ندبه السلطان لذلك حتى راح يتنكر له ويعلن أمام الجماهير الثائرة أنَّ السلطان صار ألعوبةً في أيدي الإنجليز ويصوره لهم رمزا للهزيمة والتفريط في حقوق البلاد.
وسعى جاهدا إلى أن يضم إلى صفه كبار قواد الجيش في الأناضول، وقد منحته صلاحيات عمله الواسعة بوصفه مفتشا عاما لجيوش الأناضول القوة في هذا المجال، كما وضع خطةً لإثارة عامة الشعب في تلك المنطقة، فكان يطوف بالقرى ويعقد الاجتماعات ويردد: «لقد قرر العدو أن يدمر تركيا وطننا ... وبات السلطان ـ خليفتكم ـ مسلوب الحول والقوة أسيرًا في ايدي الإنجليز ... يجب أنْ تُنقِذوا أنفُسَكم بأنفُسِكم». حتى تمكن من إشاعة جو من الحماسة القومية خدع به الجماهير الثائرة، ثم عقد مؤتمرًا عاما في مدينة سيواس ووجه الدعوة لحضوره إلى جميع منظمات المقاومة.
وعندما وصلت أنباء تلك التحركات إلى إستانبول أرسلت وزارة الحربية إلى مصطفى كمال استدعاءً للحضور إلى العاصمة، لكنه لم يحضر، وتكرر الاستدعاء والتجاهل من جانبه، وبدأ الإنجليز في لعب دورهم إذ أبدوا اعتراضَهم على الثورة وطالبوا بخلع مصطفى كمال من منصبه مهددين بالتدخل العسكري، وبالفعل تمت إقالته.
واستطاع مصطفى كمال أن يُقنِعَ كبار القواد العسكريين وممثلي منظمات المقاومة في مؤتمر عقده في مدينة (أرضروم) في 23يوليو 1919م – بضرورة تأليف حكومة مؤقتة تُنْتَخَب في مؤتمر قومي عام، يقصد مؤتمر سيواس المنتظر، لتتولَّى تصريفَ شئون البلاد ومقاومة الاحتلال بدعوَى أنَّ الحكومة الشرعية واقعة تحت سيطرة الأعداء، كما استطاع الحصول على موافقتهم على اختياره رئيسًا للجنة التي ستتولى تنفيذ قرارات هذا المؤتمر، وتمثيلهم في مؤتمر سيواس بعد أن وعدهم بألا يقدم على شيء فيه إساءة للسلطان.
ثم عقد مؤتمر سيواس في 4سبتمبر 1919، على الرغم من جهود الحكومة العثمانية لمنع انعقاده، وحضره مندوبون من جميع أنحاء البلاد، والنتُخِبَ مصطفى كمال رئيسًا له لكونه رئيس اللجنة التمثيلية لمؤتمر أرضروم، واستطاع إقناع المؤتمرين بالموافقة على قرارات مؤتمر ارضروم، وتشكيل لجنة تنفيذية للتولى عمل الحكومة المؤقتة، وانتخابه رئيسًا لها، ولكنهم اشترطوا عليه أيضًا عدم مواجهة الحكومة الشرعية بالعداء وعدم تعريض البيلاد لحرب أهلية، واتفقوا على إطلاق اسم (الميثاق الوطني) على قرارات مؤتمر سيواس.
وبدأ بعد ذلك بقطع وسائل الاتصال بين الأناضول وإستانبول، وأمرَ بتحويل جميع الإيرادات والمراسلات إليه وأشعر جميع الدوائر الرسمية في الأناضول بأنها ستكون مرتبطة به.
ثم أرسل إلى السلطان يطلب منه إقالة الصدر الأعظم وحل البرلمان وإجراء انتخابات، وأوعز إلى أنصاره أن يرسلوا إلى السلطان مؤيدين طلبه، فاضطر السلطان للموافقة، وأسفرت نتائج الانتخابات الجديدة عن وصول عدد كبير من أنصاره إلى البرلمان، ولكنهم لم يوافقوه على نقل مقر البرلمان إلى أنقره، وافتتح المجلس النيابي بعد أن خذل أنصار مصطفى كمال المنتخبون فيه أطماعَه في انْ يكونوا أداةً يتحكم فيها للوصول إلى مآربه.
وهنا بدأ تدخل الإنجليز لدعم موقف عميلهم مصطفى كمال، ففي 19مارس 1920قام الإنجليز بإعلان احتلال إستانبول رسميًّا بحجة عدم وضع حد لنشاط قوى المقاومة المناوئة لهم، وألقوا القبض على عدد من النواب وأغلقوا مقر البرلمان.
وهنا هب مصطفى كمال يستثير حمية الشعب للدفاع عن دار الخلافة فأبرق إلى النواب الذين فروا من الاعتقال لإقامة مجلس نيابي جديد في أنقرة.
وكان من الطبيعي عندما وصلت الأنباء إلى إستانبول أن يتحرك السلطان لوضع حد لهذا المارق الذي استطال شره، وكان قد تجنب الاصطدام به طويلا خشية قيام حرب أهلية، ولكن لم يعد هناك مجال للصبر، لذا فقد كلف وزير الحربية بإرسال قوات عسكرية لتعقب الثوار والقضاء عليهم، واعلن نداءً إلى الشعب يطلب مؤازرته في التصدي لهؤلاء المارقين.
وكادت جيوش الخليفة تنتصر لولا تحرك الإنجليز لإنقاذ عميلهم اليهودي، إذ أعلنوا شروط معاهدة (سيفر) التي وقع عليها الخليفة، وهي شروط مذلة أشعلت نار الغضب على الخليفة ووزرائه في نفوس الشعب، كما عملوا من جهة أخرى على تصوير مصطفى كمال بصورة البطل المجاهد، من خلال إيعازهم أولا لرئيس الوزراء اليوناني بالتوغل في غرب تركيا بقواته، ثم دعمهم لمصطفى كمال في صد هذه القوات اليونانية في تمثيلية حقيرة كان من نتائجها اجتياح الثقرى التركية المسلمة وحرقها، وحصول مصطفى كمال على صلاحيات كبيرة من المجلس النيابي، وتصويره بصورة البطل القومي.
وتم الاعتراف بعد ذلك من دول أوروبية بحكومة أنقرة، وفي غمرة تهنئته بالنصر الزائف نفذ مصطفى كمال الجزء الأخير من المخطط، وأعلن قيام الجمهورية التركية وإلغاء الخلافة الإسلامية، متنكرا لكل القيم الإسلامية التي لم يؤمن بها يومًا، ومحققا هدفا سعى إليه اليهود والقوى الاستعمارية على مدى عشرات السنين.
***
المراجع:
1- دور اليهود في إسقاط الدولة العثمانية، رسالة جامعية من إعداد هيلة بنت سعد بن محمد السليمي، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية جامعة أم القرى – المملكة العربية السعودية، عام 1422هـ-2001م.
2- دور اليهود والقوى الدولية في خلع السلطان عبد الحميد الثاني عن العرش (1908-1909)، الدكتور حسان على حلاق، الدار الجامعية للطباعة والنشر- بيروت.
الخميس، 26 مايو 2011
وجد
أهفو إلى السعادة الباقيهْ ، وأنت تهوين إلى الأرض
فكلما طرقتُ بابَ الهُدَى محلِّـــــقًا في الأفقِ الفضِّي
أغويتني برشفةٍ من وميضِ البرقِ، نشوَى، حلوةِ الوَمضِ
فكلما طرقتُ بابَ الهُدَى محلِّـــــقًا في الأفقِ الفضِّي
أغويتني برشفةٍ من وميضِ البرقِ، نشوَى، حلوةِ الوَمضِ
الأربعاء، 30 مارس 2011
مداخلات حول بحث
الفعل بين الدلالة النحوية والنصية (هدى في القرآن الكريم نموذجا)
للدكتور حسن محمد نور
بين أيدينا بحث لغوي قائم على رصد بعدين من أبعاد دلالة (هدى) في القرآن الكريم هما الدلالة النحوية والدلالة النصية.
فأما على مستوى الدلالة النحوية فقد تناول البحث (هدى) من جهة (اللزوم والتعدي)، وثمة نقاط أثارها هذا المبحث تستثير النقاش.
1- من ذلك ما ذكر من أن تقسيم الفعل إلى ماض ومضارع وأمر هو تقسيم له من حيث الزمن، والواقع أن هذا هو المشهور عند الدارسين، وإن كان لي في ذلك رأي أحب أن أطرحه عليكم لأرى مدى حظه من القبول، لو أننا تأملنا المصطلحات الثلاثة التي وضعت لكل قبيل من الأفعال للاحظنا أنَّ مصطلح (الماضي) مأخوذ من حقل الزمن، وقسيماه الحال والمستقبل، بينما مصطلح (المضارع) مأخوذ من حقل العلاقات الشكلية، إذ إن معنى المضارع المشابه، والمقصود به هنا الفعل المشابه للاسم، وقد تحدث النحاة عن أوجه الشبه بينهما وأرجعوا بعضها إلى اللفظ وبعضها إلى التركيب، وكان من المتوقع أن يكون قسيم الفعل المضارع للاسم الفعلَ غيرَ المضارع أو المباينَ للاسم، أما فعل (الأمر) فقد أخذ من حقل الخبر والإنشاء فالأمر نوع من أنواع الإنشاء الطلبي يمكن أن يكون قسيمه النهي والاستفهام والتمني ... إلخ، كما يمكن أن يكون قسيما للخبر، فيكون عندنا فعل أمر وفعل نهي وفعل خبر مثلا.
ويظهر من هذا التحليل أن كل مصطلح مأخوذ من حقل مختلف، وليس حقل الزمن هو الجامع للثلاثة، ومن ناحية أخرى فإن الدلالة الزمنية قد تكون مشتركة كما بين المضارع والأمر في الدلالة على الاستقبال.
وهذا ـ فيما أرى ـ ينفي أن تكون جهة الزمن هي حيثية التقسيم، لكن هل يعني ذلك أن النحاة خلطوا بين عدة جهات ولم يقسموا الفعل من جهة واحدة؟
الواقع أن مثل هذا الخلط بعيد جدا أن يقع ممن شيدوا صرح علم كعلم النحو، يصف لغة مترامية الأطراف وصفا على درجة كبيرة من الدقة، والذي يبدو أنهم قسموا الأفعال في العربية من حيثية واحدة يمكن أن نطلق عليها حيثية الصيغة وأعني بها مجموع الأحكام الصرفية والنحوية المشتركة بين طائفة من الأفعال دون غيرها، فلما خرج معهم ثلاثة أصناف أطلقوا على كل صنف مصطلحا معبرا عن الخصيصة العظمى له، فأخذوا مصطلح (الماضي) للصنف الأول لأنَّه دال عليه دون الحال والاستقبال، في حين يدل المضارع على زمنين ويشترك مع الأمر في الاستقبال. وأخذوا مصطلح (المضارع) للصنف الثاني لأن ما يتميز به عن الماضي والأمر هو أنه يشبه الأسماء ومن ثم أعرب، ويشترك الماضي والأمر في عدم مشابهة الأسماء، وأخذوا مصطلح (الأمر) للصنف الثالث لأنه يتميز به عن الماضي والمضارع لأنهما دالين على الخبر وهو دال على الطلب، فكل قبيل أخذ المصطلح الدال على ما يميزه، وإن لم تكن المصطلحات الثلاثة معبرة عن حيثية التقسيم.
وقد كان مبعثُ هذه الفكرة لديَّ شرحَ الأستاذ محمود شاكر رحمه الله تعالى لتعقيب عبد القاهر الجرجاني على عبارة سيبويه: «وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، وما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع» حيث فرق عبد القاهر بين هذه العبارة وقول النحاة: « والفعل ينقسم بأقسام الزمان : ماضٍ، وحاضرٌ ومستقبلٌ »، حيث قال عبد القاهر: «وليس يخفى ضعف هذا في جنبه وقصوره عنه»، وهنا بدأ الأستاذ شاكر يشرح الفرق بين عبارة سيبويه وعبارة من بعده مبينا أن سيبويه لم يرد بيان أمثلة الفعل التي هي عندنا ماض ومضارع وأمر ولكن أراد بيان الأزمنة التي تقترن بهذه الأمثلة، ولمن شاء أن يراجع كلام الأستاذ شاكر في (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) ص10-13.
***
2- الأمر الثاني الذي توقفت عنده في هذا المبحث هو بعض ما ورد من تعريفات للفعلين اللازم والمتعدي، فقد ورد أن الفعل اللازم هو «الفعل الذي يكتفي بفاعله في إتمام المعنى المراد، ولا يحتاج إلى شيء بعده كالمفعول».
كما ورد أن الفعل اللازم هو «ما لا يتعدى أثره فاعله ولا يتجاوزه إلى المفعول به، بل يبقى في نفس فاعله، نحو ذهب سعيد وسافر خالد».
وكل تعريف يثير إشكالا، فالقول بأن الفعل اللازم هو ما يكتفي بفاعله ولا يحتاج إلى مفعول به يتداخل مع تعريف الفعل التام بأنه ما يكتفي بمرفوعه، مع أن التام يشمل اللازم والمتعدي، والقول بأن الفعل اللازم هو ما لا يتعدى أثره فاعله يمنع دخول نحو: جلس زيد على الكرسي ، ونظر عمرو إلى السماء، مما يتعدى أثره فاعله بواسطة حرف الجر.
وفي المقابل ورد أن الفعل المتعدي هو «الفعل الذي لا يكتفي بالفاعل وإنما يتعداه إلى المفعول به ليكتمل المعنى، نحو سمع زيد القرآن ...» و«أن طلب الفعل المتعدي للمفعول ضروري من حيث المعنى» ، ويرد على هذا أن الفعل المتعدي هو فعل تام و(ذو تمام ما برفع يكتفي)، فكيف يقال إنه لا يكتفي بالفاعل؟
كما ورد أنه «ما يتعدى أثره فاعله ويتجاوزه إلى المفعول به» وهو بهذا الإطلاق يُدخِل ما سبق من نحو (جلس زيد على الكرسي).
والذي يبدو لي أن ضبط اللزوم والتعدي بصورة العمل يخرجنا من هذه الإيرادات، فإذا قلنا: إن الفعل اللازم هو ما لا ينصب مفعولا به، إمَّا لأنَّه لا يصل إلى المفعول به بنفسه، بل بواسطة حرف جر، أو لأنَّه ليس له مفعول به أصلا لأن معناه قائم بالفاعل - أخرجناه من مطابقة تعريف الفعل التام، وأدخلنا فيه ما يصل إلى المفعول به بواسطة حرف الجر.
وإذا قلنا إن الفعل المتعديَ هو ما ينصب مفعولا به، أو هو الذي يصل إلى المفعول به بنفسه، أخرجنا منه ما يصل بحرف الجر من جهة، والفعلَ الناقص من جهة أخرى؛ وذلك لأن الفعل الناقص لا ينصب مفعولا به ولا يرفع فاعلا، لأنه فعل يتسلط على علاقة الإسناد القائمة بين معموليه لا على المعمولين نفسهما، فقولنا: صار زيد مريضا، تتسلط فيه (صار) على علاقة الإسناد القائمة بين (زيدٌ) و(مريضا)، أما قولنا: صار زيد كتابًا، أي ضمه إليه، فعلاقة الإسناد قائمة بين (صار) و(زيد)، ويأتي (كتابا) ليكون هو ما وقع عليه فعل الفاعل.
***
3- أما الأمر الثالث والأخير الذي أثاره هذا المبحث لديَّ فهو التساؤل حول غاية الإحصاءات في التحليلات النصية والأسلوبية، فالذي يبدو لي أنَّ مجرد ذكر عدد مرات الورود دون الخلوص إلى العلاقات التي تشكل سمات خاصة بنص دون نص، أو يمكن أن يُتكأَ عليها في تحديد دلالةٍ ما؛ لايبدو ذا أهمية كبيرة في التحليل، ويحسن بنا في هذا المقام استحضار كلام الدكتور سعد مصلوح – وهو من هو في الدراسات اللسانية والأسلوبية – إذ يحدد المجالات التطبيقية للمقياس الأسلوبي الإحصائي في وجهين «أولهما : تأسيس علاقة بين المتغيرات الأسلوبية بهدف الكشف عن الخصائص الأسلوبية المائزة، وهو الهدف الوصفي. ثانيهما: تأسيس علاقة بين الخصائص الأسلوبية المائزة بهدف الكشف عن نعوت الأسلوب، وهو الهدف التقويمي. وكلا الهدفين واقع في مجال التشخيص الأسلوبي، إلا أن أولهما ينصرف إلى تشخيص الأساليب، وثانيهما ينصرف إلى تشخيص نعوت الأساليب» [في النص الأدبي دراسة أسلوبية إحصائية، ط.عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ص75].
***
وأما على مستوى الدلالة النصية فقد تناول البحث الفعل (هدى) من جهة (الإثبات والنفي) ، ويثير هذا المبحث مسألتين للحوار إحداهما كلية والأخرى جزئية:
1- فأما المسألة الكلية فتتمثل في التساؤل التالي: هل النفي والإثبات معنيان ينتميان إلى الدلالة النصية أو إلى الدلالة النحوية؟
الواقع أننا نستطيع نسبتَهما إلى كل من المستويين ولكن مع اختلاف طبيعتِهما، فإذا كان المقصود بالنفي دخولَ أداة من أدوات النفي المعروفة في علم النحو مثل: لا ولن ولم وما وإنْ وليس على الجملة، وبالإثبات خلوَّ الجملة منها ـ فأعتقد أننا جميعا سنتفق على أن هذه دلالة نحوية تنتمي إلى ما يسميه النحاة بالمعاني العامة التي تحدثها الحروف في الجمل، كالتوكيد والتمني والشرط، وحينئذ يكون الكلام عن نفي الفعل وإثباته من باب الكلام في الدلالة النحوية لا النصية.
وأمَّا إذا كان المقصود بالنفي والإثبات ما يتحصل من نص كامل أو جزء منه أكبرَ من الجملة، كما لو ألقى أحد المسئولين خطبة يثبت فيها أن الأمور تسير على ما يرام، فرد عليه أحد الكتاب بمقال ينفي فيه استقرار الأوضاع ـ فإنَّ هذا النوع من النفي والإثبات لا يتحصل إلا بمجموع النص، ومن ثم يمكن أن ينسب إلى الدلالة النصية أي المأخوذة من النص في مجموعه.
وهذا يقودنا إلى فتح باب الحوار حول ما تتميز به الدراسة النصية ولابد أن يتحقق فيها، إذ لا يكفي ـ فيما أرى ـ أن تتعلق الدراسة بنص من النصوص حتى تسمى دراسة نصية، خصوصا بعد أن ظهر اتجاه الدرس النصي تحت ما يسمى بعلم النص أو علم لغة النص أو لسانيات النص أو نحو النص، إذ أصبحت (الدراسة النصية) مصطلحا يدل على انتماء الدراسة لحقل بعينه يقتضي أن تتسم بسماته، والذي يبدو لي أن أبرز هذه السمات هي:
أ- وَصْلُ النصِّ اللغوي بالمقام.
ب- الاهتمام ببيان عناصر الترابط والتماسك بين أجزاء النص.
ج- السعي إلى فهم النص وتفسيره استنادًا إلى مقولات لغوية بالإضافة إلى مقولات غير لغوية، وما يرتبط بذلك من مشكلات مثل دور القارئ في تحديد المعنى.
د- تفسير عناصر النص في إطار وحدة كلية له، فدلالة المفردات والجمل خارج النص ليست هي بالضبط دلالتها داخله.
***
2- وأما المسألة الجزئية فهي الوقوف عند تفسير قوله تعالى: ﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء﴾ [القصص:56] على أن فيه تبرئةً لساحة النبي ﷺ من الهوى في دعوته، «وكأنه تعالى يقول له: إنك يا محمد لستَ ممن لديهم هوًى فيدعون من يحبون ولا يدعون من لا يحبون»، وإذا كان لي أنْ أعقب على هذا المعنى، فإني في الحقيقة لم أفهم وجه استنباطه من الآية الكريمة، ذلك أن الهداية ـ وكما قرر البحث ـ إما أن تكون هدايةَ إرشاد ودلالة على طريق الحق وهي ثابتة للنبي ﷺ، وإما أن تكون هدايةَ توفيق للإيمان وإدخال له في القلوب وهذه بيد الله تعالى وحده، فإذا حُمِلَت الهداية في قوله تعالى: ﴿لا تهدي﴾ على هداية التوفيق فالنبي ﷺ لا يدخل الإيمان في قلب أحد لا مَنْ أحب ولا من لم يحب، لأن هذا لله وحده، فلا مجال للقول بأن المعنى (إنك لا تهدي من أحببت فقط لأنك لا تتبع الهوى)، وإنما ذكر (من أحببت) دون غيرهم لأن سبب النزول يتعلق بهم حيث قيل إنها نزلت في أبي طالب عم النبي ﷺ حين مات ولم يسلم، ولأن ذكرهم يغني عن ذكر غيرهم فهو من الإيجاز البليغ، أو لأنَّ كل من يدعوه النبي ﷺ فهو يحب هدايته فليس ثمة أحد لا يحب النبي ﷺ هدايتَه، وهذا على أنَّ التقدير: (من أحببت هدايته) لا (من أحببته).
وإنْ حملت الهداية على هداية الإرشاد والدلالة فهل يكون معنا دليل على تقدير محذوف حتى يكون المعنى : إنك لا ترشد من أحببت فقط، أو من أحببت دون من لم تحب؟! ثم هل يستقيم أن تكون الهداية الأولى بمعنى الإرشاد والثانية بمعنى التوفيق مع أن الحرف (لكنَّ) يقتضي اتحادهما في المعنى حتى يتم الاستدراك الذي هو تعقيب الكلام برفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه؟! إذ إن قوله تعالى: ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾ يتوهم منه نفي الهداية مطلقا عمن أحب النبي ﷺ، فعقب بقوله تعالى: ﴿ولكن الله يهدي من يشاء﴾ لرفع نفي مطلق الهداية عمن أحب النبيُّ ﷺ بما يقتضي إثباتها للبعض بحسب مشيئة الله عز وجل، فإن جعلنا الهداية الأولى إرشادا والثانية توفيقا لم يتم الاستدراك، وإذا جعلنا الثانية أيضا إرشادا فسد المعنى لأنَّ الله تعالى تكفل بإرشاد جميع الخلق، قال تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِين﴾ [آل عمران: 138]، فلا يبقى إلا أن نجعلهما معا من قبيل هداية التوفيق وحينئذ يمتنع المعنى المذكور لما سبق.
والله تعالى أعلى وأعلم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
كتبه: د/تامر أنيس
الفعل بين الدلالة النحوية والنصية (هدى في القرآن الكريم نموذجا)
للدكتور حسن محمد نور
بين أيدينا بحث لغوي قائم على رصد بعدين من أبعاد دلالة (هدى) في القرآن الكريم هما الدلالة النحوية والدلالة النصية.
فأما على مستوى الدلالة النحوية فقد تناول البحث (هدى) من جهة (اللزوم والتعدي)، وثمة نقاط أثارها هذا المبحث تستثير النقاش.
1- من ذلك ما ذكر من أن تقسيم الفعل إلى ماض ومضارع وأمر هو تقسيم له من حيث الزمن، والواقع أن هذا هو المشهور عند الدارسين، وإن كان لي في ذلك رأي أحب أن أطرحه عليكم لأرى مدى حظه من القبول، لو أننا تأملنا المصطلحات الثلاثة التي وضعت لكل قبيل من الأفعال للاحظنا أنَّ مصطلح (الماضي) مأخوذ من حقل الزمن، وقسيماه الحال والمستقبل، بينما مصطلح (المضارع) مأخوذ من حقل العلاقات الشكلية، إذ إن معنى المضارع المشابه، والمقصود به هنا الفعل المشابه للاسم، وقد تحدث النحاة عن أوجه الشبه بينهما وأرجعوا بعضها إلى اللفظ وبعضها إلى التركيب، وكان من المتوقع أن يكون قسيم الفعل المضارع للاسم الفعلَ غيرَ المضارع أو المباينَ للاسم، أما فعل (الأمر) فقد أخذ من حقل الخبر والإنشاء فالأمر نوع من أنواع الإنشاء الطلبي يمكن أن يكون قسيمه النهي والاستفهام والتمني ... إلخ، كما يمكن أن يكون قسيما للخبر، فيكون عندنا فعل أمر وفعل نهي وفعل خبر مثلا.
ويظهر من هذا التحليل أن كل مصطلح مأخوذ من حقل مختلف، وليس حقل الزمن هو الجامع للثلاثة، ومن ناحية أخرى فإن الدلالة الزمنية قد تكون مشتركة كما بين المضارع والأمر في الدلالة على الاستقبال.
وهذا ـ فيما أرى ـ ينفي أن تكون جهة الزمن هي حيثية التقسيم، لكن هل يعني ذلك أن النحاة خلطوا بين عدة جهات ولم يقسموا الفعل من جهة واحدة؟
الواقع أن مثل هذا الخلط بعيد جدا أن يقع ممن شيدوا صرح علم كعلم النحو، يصف لغة مترامية الأطراف وصفا على درجة كبيرة من الدقة، والذي يبدو أنهم قسموا الأفعال في العربية من حيثية واحدة يمكن أن نطلق عليها حيثية الصيغة وأعني بها مجموع الأحكام الصرفية والنحوية المشتركة بين طائفة من الأفعال دون غيرها، فلما خرج معهم ثلاثة أصناف أطلقوا على كل صنف مصطلحا معبرا عن الخصيصة العظمى له، فأخذوا مصطلح (الماضي) للصنف الأول لأنَّه دال عليه دون الحال والاستقبال، في حين يدل المضارع على زمنين ويشترك مع الأمر في الاستقبال. وأخذوا مصطلح (المضارع) للصنف الثاني لأن ما يتميز به عن الماضي والأمر هو أنه يشبه الأسماء ومن ثم أعرب، ويشترك الماضي والأمر في عدم مشابهة الأسماء، وأخذوا مصطلح (الأمر) للصنف الثالث لأنه يتميز به عن الماضي والمضارع لأنهما دالين على الخبر وهو دال على الطلب، فكل قبيل أخذ المصطلح الدال على ما يميزه، وإن لم تكن المصطلحات الثلاثة معبرة عن حيثية التقسيم.
وقد كان مبعثُ هذه الفكرة لديَّ شرحَ الأستاذ محمود شاكر رحمه الله تعالى لتعقيب عبد القاهر الجرجاني على عبارة سيبويه: «وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، وما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع» حيث فرق عبد القاهر بين هذه العبارة وقول النحاة: « والفعل ينقسم بأقسام الزمان : ماضٍ، وحاضرٌ ومستقبلٌ »، حيث قال عبد القاهر: «وليس يخفى ضعف هذا في جنبه وقصوره عنه»، وهنا بدأ الأستاذ شاكر يشرح الفرق بين عبارة سيبويه وعبارة من بعده مبينا أن سيبويه لم يرد بيان أمثلة الفعل التي هي عندنا ماض ومضارع وأمر ولكن أراد بيان الأزمنة التي تقترن بهذه الأمثلة، ولمن شاء أن يراجع كلام الأستاذ شاكر في (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) ص10-13.
***
2- الأمر الثاني الذي توقفت عنده في هذا المبحث هو بعض ما ورد من تعريفات للفعلين اللازم والمتعدي، فقد ورد أن الفعل اللازم هو «الفعل الذي يكتفي بفاعله في إتمام المعنى المراد، ولا يحتاج إلى شيء بعده كالمفعول».
كما ورد أن الفعل اللازم هو «ما لا يتعدى أثره فاعله ولا يتجاوزه إلى المفعول به، بل يبقى في نفس فاعله، نحو ذهب سعيد وسافر خالد».
وكل تعريف يثير إشكالا، فالقول بأن الفعل اللازم هو ما يكتفي بفاعله ولا يحتاج إلى مفعول به يتداخل مع تعريف الفعل التام بأنه ما يكتفي بمرفوعه، مع أن التام يشمل اللازم والمتعدي، والقول بأن الفعل اللازم هو ما لا يتعدى أثره فاعله يمنع دخول نحو: جلس زيد على الكرسي ، ونظر عمرو إلى السماء، مما يتعدى أثره فاعله بواسطة حرف الجر.
وفي المقابل ورد أن الفعل المتعدي هو «الفعل الذي لا يكتفي بالفاعل وإنما يتعداه إلى المفعول به ليكتمل المعنى، نحو سمع زيد القرآن ...» و«أن طلب الفعل المتعدي للمفعول ضروري من حيث المعنى» ، ويرد على هذا أن الفعل المتعدي هو فعل تام و(ذو تمام ما برفع يكتفي)، فكيف يقال إنه لا يكتفي بالفاعل؟
كما ورد أنه «ما يتعدى أثره فاعله ويتجاوزه إلى المفعول به» وهو بهذا الإطلاق يُدخِل ما سبق من نحو (جلس زيد على الكرسي).
والذي يبدو لي أن ضبط اللزوم والتعدي بصورة العمل يخرجنا من هذه الإيرادات، فإذا قلنا: إن الفعل اللازم هو ما لا ينصب مفعولا به، إمَّا لأنَّه لا يصل إلى المفعول به بنفسه، بل بواسطة حرف جر، أو لأنَّه ليس له مفعول به أصلا لأن معناه قائم بالفاعل - أخرجناه من مطابقة تعريف الفعل التام، وأدخلنا فيه ما يصل إلى المفعول به بواسطة حرف الجر.
وإذا قلنا إن الفعل المتعديَ هو ما ينصب مفعولا به، أو هو الذي يصل إلى المفعول به بنفسه، أخرجنا منه ما يصل بحرف الجر من جهة، والفعلَ الناقص من جهة أخرى؛ وذلك لأن الفعل الناقص لا ينصب مفعولا به ولا يرفع فاعلا، لأنه فعل يتسلط على علاقة الإسناد القائمة بين معموليه لا على المعمولين نفسهما، فقولنا: صار زيد مريضا، تتسلط فيه (صار) على علاقة الإسناد القائمة بين (زيدٌ) و(مريضا)، أما قولنا: صار زيد كتابًا، أي ضمه إليه، فعلاقة الإسناد قائمة بين (صار) و(زيد)، ويأتي (كتابا) ليكون هو ما وقع عليه فعل الفاعل.
***
3- أما الأمر الثالث والأخير الذي أثاره هذا المبحث لديَّ فهو التساؤل حول غاية الإحصاءات في التحليلات النصية والأسلوبية، فالذي يبدو لي أنَّ مجرد ذكر عدد مرات الورود دون الخلوص إلى العلاقات التي تشكل سمات خاصة بنص دون نص، أو يمكن أن يُتكأَ عليها في تحديد دلالةٍ ما؛ لايبدو ذا أهمية كبيرة في التحليل، ويحسن بنا في هذا المقام استحضار كلام الدكتور سعد مصلوح – وهو من هو في الدراسات اللسانية والأسلوبية – إذ يحدد المجالات التطبيقية للمقياس الأسلوبي الإحصائي في وجهين «أولهما : تأسيس علاقة بين المتغيرات الأسلوبية بهدف الكشف عن الخصائص الأسلوبية المائزة، وهو الهدف الوصفي. ثانيهما: تأسيس علاقة بين الخصائص الأسلوبية المائزة بهدف الكشف عن نعوت الأسلوب، وهو الهدف التقويمي. وكلا الهدفين واقع في مجال التشخيص الأسلوبي، إلا أن أولهما ينصرف إلى تشخيص الأساليب، وثانيهما ينصرف إلى تشخيص نعوت الأساليب» [في النص الأدبي دراسة أسلوبية إحصائية، ط.عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ص75].
***
وأما على مستوى الدلالة النصية فقد تناول البحث الفعل (هدى) من جهة (الإثبات والنفي) ، ويثير هذا المبحث مسألتين للحوار إحداهما كلية والأخرى جزئية:
1- فأما المسألة الكلية فتتمثل في التساؤل التالي: هل النفي والإثبات معنيان ينتميان إلى الدلالة النصية أو إلى الدلالة النحوية؟
الواقع أننا نستطيع نسبتَهما إلى كل من المستويين ولكن مع اختلاف طبيعتِهما، فإذا كان المقصود بالنفي دخولَ أداة من أدوات النفي المعروفة في علم النحو مثل: لا ولن ولم وما وإنْ وليس على الجملة، وبالإثبات خلوَّ الجملة منها ـ فأعتقد أننا جميعا سنتفق على أن هذه دلالة نحوية تنتمي إلى ما يسميه النحاة بالمعاني العامة التي تحدثها الحروف في الجمل، كالتوكيد والتمني والشرط، وحينئذ يكون الكلام عن نفي الفعل وإثباته من باب الكلام في الدلالة النحوية لا النصية.
وأمَّا إذا كان المقصود بالنفي والإثبات ما يتحصل من نص كامل أو جزء منه أكبرَ من الجملة، كما لو ألقى أحد المسئولين خطبة يثبت فيها أن الأمور تسير على ما يرام، فرد عليه أحد الكتاب بمقال ينفي فيه استقرار الأوضاع ـ فإنَّ هذا النوع من النفي والإثبات لا يتحصل إلا بمجموع النص، ومن ثم يمكن أن ينسب إلى الدلالة النصية أي المأخوذة من النص في مجموعه.
وهذا يقودنا إلى فتح باب الحوار حول ما تتميز به الدراسة النصية ولابد أن يتحقق فيها، إذ لا يكفي ـ فيما أرى ـ أن تتعلق الدراسة بنص من النصوص حتى تسمى دراسة نصية، خصوصا بعد أن ظهر اتجاه الدرس النصي تحت ما يسمى بعلم النص أو علم لغة النص أو لسانيات النص أو نحو النص، إذ أصبحت (الدراسة النصية) مصطلحا يدل على انتماء الدراسة لحقل بعينه يقتضي أن تتسم بسماته، والذي يبدو لي أن أبرز هذه السمات هي:
أ- وَصْلُ النصِّ اللغوي بالمقام.
ب- الاهتمام ببيان عناصر الترابط والتماسك بين أجزاء النص.
ج- السعي إلى فهم النص وتفسيره استنادًا إلى مقولات لغوية بالإضافة إلى مقولات غير لغوية، وما يرتبط بذلك من مشكلات مثل دور القارئ في تحديد المعنى.
د- تفسير عناصر النص في إطار وحدة كلية له، فدلالة المفردات والجمل خارج النص ليست هي بالضبط دلالتها داخله.
***
2- وأما المسألة الجزئية فهي الوقوف عند تفسير قوله تعالى: ﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء﴾ [القصص:56] على أن فيه تبرئةً لساحة النبي ﷺ من الهوى في دعوته، «وكأنه تعالى يقول له: إنك يا محمد لستَ ممن لديهم هوًى فيدعون من يحبون ولا يدعون من لا يحبون»، وإذا كان لي أنْ أعقب على هذا المعنى، فإني في الحقيقة لم أفهم وجه استنباطه من الآية الكريمة، ذلك أن الهداية ـ وكما قرر البحث ـ إما أن تكون هدايةَ إرشاد ودلالة على طريق الحق وهي ثابتة للنبي ﷺ، وإما أن تكون هدايةَ توفيق للإيمان وإدخال له في القلوب وهذه بيد الله تعالى وحده، فإذا حُمِلَت الهداية في قوله تعالى: ﴿لا تهدي﴾ على هداية التوفيق فالنبي ﷺ لا يدخل الإيمان في قلب أحد لا مَنْ أحب ولا من لم يحب، لأن هذا لله وحده، فلا مجال للقول بأن المعنى (إنك لا تهدي من أحببت فقط لأنك لا تتبع الهوى)، وإنما ذكر (من أحببت) دون غيرهم لأن سبب النزول يتعلق بهم حيث قيل إنها نزلت في أبي طالب عم النبي ﷺ حين مات ولم يسلم، ولأن ذكرهم يغني عن ذكر غيرهم فهو من الإيجاز البليغ، أو لأنَّ كل من يدعوه النبي ﷺ فهو يحب هدايته فليس ثمة أحد لا يحب النبي ﷺ هدايتَه، وهذا على أنَّ التقدير: (من أحببت هدايته) لا (من أحببته).
وإنْ حملت الهداية على هداية الإرشاد والدلالة فهل يكون معنا دليل على تقدير محذوف حتى يكون المعنى : إنك لا ترشد من أحببت فقط، أو من أحببت دون من لم تحب؟! ثم هل يستقيم أن تكون الهداية الأولى بمعنى الإرشاد والثانية بمعنى التوفيق مع أن الحرف (لكنَّ) يقتضي اتحادهما في المعنى حتى يتم الاستدراك الذي هو تعقيب الكلام برفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه؟! إذ إن قوله تعالى: ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾ يتوهم منه نفي الهداية مطلقا عمن أحب النبي ﷺ، فعقب بقوله تعالى: ﴿ولكن الله يهدي من يشاء﴾ لرفع نفي مطلق الهداية عمن أحب النبيُّ ﷺ بما يقتضي إثباتها للبعض بحسب مشيئة الله عز وجل، فإن جعلنا الهداية الأولى إرشادا والثانية توفيقا لم يتم الاستدراك، وإذا جعلنا الثانية أيضا إرشادا فسد المعنى لأنَّ الله تعالى تكفل بإرشاد جميع الخلق، قال تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِين﴾ [آل عمران: 138]، فلا يبقى إلا أن نجعلهما معا من قبيل هداية التوفيق وحينئذ يمتنع المعنى المذكور لما سبق.
والله تعالى أعلى وأعلم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
كتبه: د/تامر أنيس
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)