تجذب انتباهي ظواهر اجتماعية قد لا يعبأ بها كثير من الناس، وأشعر أنها بحاجة إلى مزيد من التأمل لاستخلاص القوانين التي تحكمها، ولا يعدو الأمر وصفَ ما يحدث بالدقة الممكنة ومحاولةَ تفسيره، لكنني سرعان ما تصرفني الصوارف عن ذلك مستسلما لها متعللا بأن مثل هذه الظواهر خارجة عن نطاق تخصصي، بيد أنني لمحت في الآونة الأخيرة أن بعض هذه الظواهر على الأقل يمكن أن يندرج باعتبار ما تحت الظواهر اللغوية التي هي مجال تخصصي ومحل اهتمامي، فلماذا لا أدون ما يعن لي من ملحوظات عن هذه الظواهر عسى أن تشكل نواة لوصف دقيق وتفسير كلي لها، وهل العلم إلا ملاحظة وتفسير ووصف يقود إلى وضع قوانين تحكم الظواهر وتعين على التحكم فيها بحسب المصالح، إن العالم الحقيقي ذو ملكة خاصة تمكنه من أن يرى في الأحداث العادية التي تقع كل يوم ولا يلتفت إليها كثير من الناس ظواهر متمايزة لكل منها نظامه الخاص الذي يحكمه، وبينها جميعا علاقات تأثير وتأثر متبادلة، وشأنه في ذلك شأن الشاعر المطبوع الذي يدرك من العلاقات بين الأشياء ما لا يدركه غيره، وينظر إلى الأشياء المألوفة نظرة جديدة غير مألوفة، فإذا كان إبداع الشاعر في إنشائه عالَما جديدا خاصا به من خلال رؤيته للعالم المألوف من حوله، فإن إبداع العالِم في إدراكه للعالَم الذي يبدو مألوفا غالبا على أنه مجموعة من الظواهر المحيرة التي تثير في ذهنه العديد من التساؤلات تبدأبـ(لماذا) و(كيف)، ومحاولة الإجابة عليها بالطبع.
(1) أولى هذه الظواهر التي لفتت انتباهي ظاهرة توزع الركاب في عربات المترو، ويتعلق هذا التوزع بأربعة عناصر هي: النوع (الذكور والإناث)، والعدد (مدى امتلاء العربة)، والوقت( في أي ساعة من اليوم؟ وفي أي يوم من الأسبوع أو العام؟)، ورقم العربة.
(2) وظاهرة ثانية، هي التفاهم الصامت بين السائرين على الأقدام في اتجاهين متعاكسين، ثمة لحظة معينة يتخذ فيها أحدهما قرارا بالانحراف قليلا ليخلي الطريق للقادم أمامه، في أي مسافة فاصلة تأتي هذه اللحظة؟ وكيف يدرك الطرف الآخر أن الأول قد اتخذ القرار فلا يتخذ هو قرارا مماثلا؟ ولماذا يخطئ بعض الناس في هذا الإدراك أو يتخذ قراره في توقيت غير مناسب فيحدث إرباكا للطرف الآخر ويسبب في بعض الأحيان حرجا اجتماعيا له وللآخر؟ وهل هناك عرف خفي يحدد صفات من يجب عليه المبادرة باتخاذ القرار كأن يكون الرجلَ إذا كان الطريق بين رجل وامرأة، والشابَّ إذا كان بين شاب وشيخ، والمنفردَ إذا كان بين منفرد وممقترنين؟
هل لي أن أعد مثل هذه الظاهرة من قبيل اللغة غير المنطوقة (ولا المكتوبة بالطبع)، وغير لغة الإشارات الجسمية وغير الجسمية؟ هل لي أن أُسَمِّيَها اللغةَ الصامتة؟ وأن أزعم أنها تمثل نمطا ثالثا من اللغة الإنسانية يضاف إلى النمطين المعروفين؛ لغة الكلام ولغة الإشارة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق