الأحد، 14 فبراير 2010

ظواهر


تجذب انتباهي ظواهر اجتماعية قد لا يعبأ بها كثير من الناس، وأشعر أنها بحاجة إلى مزيد من التأمل لاستخلاص القوانين التي تحكمها، ولا يعدو الأمر وصفَ ما يحدث بالدقة الممكنة ومحاولةَ تفسيره، لكنني سرعان ما تصرفني الصوارف عن ذلك مستسلما لها متعللا بأن مثل هذه الظواهر خارجة عن نطاق تخصصي، بيد أنني لمحت في الآونة الأخيرة أن بعض هذه الظواهر على الأقل يمكن أن يندرج باعتبار ما تحت الظواهر اللغوية التي هي مجال تخصصي ومحل اهتمامي، فلماذا لا أدون ما يعن لي من ملحوظات عن هذه الظواهر عسى أن تشكل نواة لوصف دقيق وتفسير كلي لها، وهل العلم إلا ملاحظة وتفسير ووصف يقود إلى وضع قوانين تحكم الظواهر وتعين على التحكم فيها بحسب المصالح، إن العالم الحقيقي ذو ملكة خاصة تمكنه من أن يرى في الأحداث العادية التي تقع كل يوم ولا يلتفت إليها كثير من الناس ظواهر متمايزة لكل منها نظامه الخاص الذي يحكمه، وبينها جميعا علاقات تأثير وتأثر متبادلة، وشأنه في ذلك شأن الشاعر المطبوع الذي يدرك من العلاقات بين الأشياء ما لا يدركه غيره، وينظر إلى الأشياء المألوفة نظرة جديدة غير مألوفة، فإذا كان إبداع الشاعر في إنشائه عالَما جديدا خاصا به من خلال رؤيته للعالم المألوف من حوله، فإن إبداع العالِم في إدراكه للعالَم الذي يبدو مألوفا غالبا على أنه مجموعة من الظواهر المحيرة التي تثير في ذهنه العديد من التساؤلات تبدأبـ(لماذا) و(كيف)، ومحاولة الإجابة عليها بالطبع.
(1) أولى هذه الظواهر التي لفتت انتباهي ظاهرة توزع الركاب في عربات المترو، ويتعلق هذا التوزع بأربعة عناصر هي: النوع (الذكور والإناث)، والعدد (مدى امتلاء العربة)، والوقت( في أي ساعة من اليوم؟ وفي أي يوم من الأسبوع أو العام؟)، ورقم العربة.
(2) وظاهرة ثانية، هي التفاهم الصامت بين السائرين على الأقدام في اتجاهين متعاكسين، ثمة لحظة معينة يتخذ فيها أحدهما قرارا بالانحراف قليلا ليخلي الطريق للقادم أمامه، في أي مسافة فاصلة تأتي هذه اللحظة؟ وكيف يدرك الطرف الآخر أن الأول قد اتخذ القرار فلا يتخذ هو قرارا مماثلا؟ ولماذا يخطئ بعض الناس في هذا الإدراك أو يتخذ قراره في توقيت غير مناسب فيحدث إرباكا للطرف الآخر ويسبب في بعض الأحيان حرجا اجتماعيا له وللآخر؟ وهل هناك عرف خفي يحدد صفات من يجب عليه المبادرة باتخاذ القرار كأن يكون الرجلَ إذا كان الطريق بين رجل وامرأة، والشابَّ إذا كان بين شاب وشيخ، والمنفردَ إذا كان بين منفرد وممقترنين؟
هل لي أن أعد مثل هذه الظاهرة من قبيل اللغة غير المنطوقة (ولا المكتوبة بالطبع)، وغير لغة الإشارات الجسمية وغير الجسمية؟ هل لي أن أُسَمِّيَها اللغةَ الصامتة؟ وأن أزعم أنها تمثل نمطا ثالثا من اللغة الإنسانية يضاف إلى النمطين المعروفين؛ لغة الكلام ولغة الإشارة؟

الخميس، 28 يناير 2010

من أخلاق الإسلام الحياء

الحياء خلق إسلامي رفيع، حث عليه ديننا الحنيف، وجعله نبيُّنا الكريم B من الإيمان، إذ قال: «الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شُعبة، فأفضلها قول لا إله إلا اللَّـه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» [متفق عليه]. وقال B: «الحياء خير كله». وهذا الخُلُق يعد مظهرًا لعِفة النفس، واستقامة السلوك، ومن ثَمَّ خَصَّه النبي B بالذكر من بين شعب الإيمان المتوسطة بين أعلاها وأدناها، وإن المجتمع الذي يسود فيه خلق الحياء مجتمع متقدم بالمعنى الحقيقي للتقدم الذي غفلنا عنه تحت وطأة الفكر الغربي الذي وقعنا في أسره منذ زمن بعيد، ولمن شاء أن يقارن بين سلوك شبابنا اليوم وما هم عليه في مجموعهم من الاختلاط الفج وغير المنضبط الذي يؤدي إلى صور منافية للحياء من كل وجه، وبين قصة موسى عليه السلام مع فتاتي مدين، وكيف وجدهما بعيدتين عن القوم لم تزاحماهم على الماء ﴿وجد من دونهمُ امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلَيَّ من خير فقير» إنه لم يستغل الفرصة ولم يطل الكلام والحديث ولم يعرض عليهما أن يبلِّغها إلى البيت لم يكن منه إلا أن قدم ما عجزتا عنه في مروءة مغلفة بالحياء والعفة، ثم لما جاءته إحداهما جاءته على استحياء، ولم تكثر معه الحديث، وإنما اقتصرت على بضع كلمات هي رسالة موجزة من أبيها، قال تعالى: «وجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت: إنَّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا﴾، إنه خلق الحياء الذي يحكم سلوكها في كل وقت، وما قدمته صورة واحدة من صور الحياء، وهناك صور أخرى للحياء من أهمها حياء المسلم من ربه.

عبر الجنيد عن منشأ الحياء من اللَّـه بقوله: «الحياءُ رؤية الآلاء ـ أي النعم ـ ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى حياءً».

وقد روي عن النبي B أنه قال: «استحيوا من اللَّـه حق الحياء .. قالوا: إنّا نستحيي يا نبيّ اللَّـه والحمد لله، قال: ليس ذلك، ولكن من استحيا من اللَّـه حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى واليحفظط البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من اللَّـه حق الحياء».