هذه
نصيحة كنت قد كتبتها لأحد الفضلاء من طلبة العلم الشرعي، ثم رأيت أنَّها قد تنفع غيره ممن كان في مثل
حاله، والله أسأل الإخلاص في القول والعمل.
الحمد
لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
اسمعني جيدا
يا أستاذ ...
حالتك هذه
لا يجدي معها مجرد نصيحة عابرة ، إنها تحتاج
إلى تواصل دائم؛ لذلك سأحلل
معك بعض خيوط المشكلة ثم أنتظر منك أن توافيني بما يجد لك كل يوم حتى نناقشه سويا.
فأنا أرى
أن من أسباب حالة الاكتئاب تعقد خيوط الأفكار واشتباكها بما يعيق حركة النفس فيشعر
المرء بثقل في صدره، فإذا استطاع أن يفك هذا الاشتباك وأمكنه أن يتعامل مع كل خيط على
حدة سهل عليه الخطب وبانت كل مشكلة في حجمها الطبعي وتدفقت النفس وانكشف الاكتئاب،
وهذا ما أحاوله معك.
أولا- قضية
سوء الاختيار:
سأفترض
معك على أسوأ الأحوال أن اختيارك كان خطأ، فما الواجب تجاه ذلك؟
إذا كان
ما اخترته محرما شرعا كما لو اخترت أن تد رس الموسيقى على قول من يحرمها أو أن
تعمل في تجارة المخدرات فالواجب أن ترجع عن هذا الاختيار وتبحث لك عن طريق آخر،
وتتحمل تبعة هذا الاختيار السيء التي تتمثل في أنك ستبدأ طريقا آخر من أوله، ما
يعني أن السنوات الماضية ضاعت منك. وأنت حينئذ تستطيع أن تتحمل هذه التبعة راضيا
بها لأنها أخف من تبعة الاستمرار في الطريق المحرم المتمثلة في خسارة حياتك كلها.
أما إذا
كان ما اخترته مباحا شرعا أو مستحبا (وهذه أولى درجات القبول) وأنفقت فيه عدة
سنوات من عمرك لا تعرف غيره، وكان تغييره الآن يحتاج منك إلى عدة سنوات أخرى، فليس
من الحكمة أبدا 1- أن تندم على اختيارك حتى لو بدى لك غيره أحسن منه لسبب أو لآخر،
2- أن تفكر في تغييره لما فيه من تضييع لعمرك الغالي، 3- أن تتوقف عن السير فيه.
وإنما
تقتضي الحكمة أن تنظر إلى ما فيه من خير وإيجابيات، وتعالج ما تراه من سلبيات بما
في ذلك مسألة تصحيح النية.
إذن لا
ينبغي أن تحاسب نفسك الآن على سوء اختيارك فيما مضى، ولكن فكر في اختيارك فيما
يأتي وحاول بقدر المستطاع ألا يكون اختيارا سيئا يضيع عليك سنوات عمرك.
وقد قيل
لنا قديما إذا لم تكن تعمل ما تحب فأحبَّ ما تعمل.
هذا كله
على فرض أنك أسأت الاختيار مع أني واثق أنك بعد أن تجتاز هذه المحنة ستغير رأيك
180 درجة.
ثانيا-
عظم الأمانة والقصور في الجانب الشرعي:
لا شك
أخي الكريم أن أمانة العلم الشرعي حمل عظيم، ولكن لا تنس أيضا أن الله تعالى لا
يكلف نفسا إلا وسعها، وليس كل الناس على درجة واحدة من القدرات الذهنية حفظا وفهما
وتحليلا، فليس المطلوب منك كي تؤدي حق الأمانة أن تكون كأبي حنيفة ومالك والشافعي
وأحمد، ولكن المطلوب منك ألا تدعيَ علمَ ما لا تعلم، وألا تفتيَ بغير علم، وألا تتبع
الهوى، وهي كلها أمور في متناول يدك إن شاء الله.
وأنت
تقول إنك لا تتخيل نفسك متحدثا في هذا المجال، فما معنى الحديث هنا هل هو الفتيا
أو شرح مسائل العلم؟
اعلم
وفقك الله أن المشتغل بالفقه له وظائف ثلاث: التدريس والفتيا والقضاء، فلا عليك -
إن رأيت نفسك بعد الطلب والاجتهاد تقصر عن مقام الفتيا- ألَّا تُفْتِيَ، وأن تكتفي
بالتدريس الذي تشرح فيه المسائل شرحا جيدا سليما وأحسب أن هذا يسير عليك إن شاء
الله، وليس هذا مما يعيبك في شيء، ثم تأمل هل كل من حصل على الدكتوراه في علوم
العربية صار نحويا أو لغويا مجتهدا ، أو أن معظمنا يقوم بمقام التدريس، ويتفاوت
الناس في درجة الاجتهاد وفي توقيته؟
ثالثا –
العمل ومتطلبات الحياة:
يمكن أن
يكون هذا سببا معيقا عن البدء في الطريق، لكن التجربة تقول إنه لا يعيق عن مواصلة
الطريق غالبا، قد تتأخر عامين أو ثلاثة أو أربعة، لكنك ستصل إن شاء الله، ومع علو
الهمة وتنظيم الوقت يتم المراد.
أخي
الكريم
إن الخوف
والنوم والهروب ليس حلا للمشكلة .. بل هي أفضل الوسائل لتعقيدها.
ما ينبغي
أن تقوم به الآن هو أن تنسى الأهداف البعيدة والمستقبل المجهول وتضع نصب عينيك
هدفا واحدا قريبا هو الانتهاء من الماجستير ، وتحدد برنامجا زمنيا لذلك، وتعتبر كلَّ
فكرة تُعِيقُك عن هذا الهدف وسوسةَ شيطانٍ يمارس وظيفته في تضييع أبناء آدم
وإثنائهم عن النجاح في الدنيا والآخرة، حتى لو كانت هذه الوساوس تتعلق بالنية
والخوف من الله بسبب عدم الإخلاص، تجاهل هذه الوساوس الآن وعندما تصل إلى هدفك
فتجد هناك نيتَك، ولا تنس قول القائل: «طلبنا العلم لغير الله فأبى الله إلا أن
يكون له».
قم وصل
ركعتين وفكر في أنك إنسان مسلم تحتاجك الأمة كما تحتاج كل فرد من أفرادها، وأنك
بدراستك لعلوم الشريعة تمثل ترسا في آلة الأمة الكبيرة ومهما استصغرت هذا الترس
فإن انكساره من شأنه أن يعطل هذه الآلة، وأن الحصول على الماجستير والدكتوراه
وسيلة مهمة من الوسائل المعاصرة لمواصلة الدرس والبحث.
سدد الله
خطاك.