مداخلات حول بحث
الفعل بين الدلالة النحوية والنصية (هدى في القرآن الكريم نموذجا)
للدكتور حسن محمد نور
بين أيدينا بحث لغوي قائم على رصد بعدين من أبعاد دلالة (هدى) في القرآن الكريم هما الدلالة النحوية والدلالة النصية.
فأما على مستوى الدلالة النحوية فقد تناول البحث (هدى) من جهة (اللزوم والتعدي)، وثمة نقاط أثارها هذا المبحث تستثير النقاش.
1- من ذلك ما ذكر من أن تقسيم الفعل إلى ماض ومضارع وأمر هو تقسيم له من حيث الزمن، والواقع أن هذا هو المشهور عند الدارسين، وإن كان لي في ذلك رأي أحب أن أطرحه عليكم لأرى مدى حظه من القبول، لو أننا تأملنا المصطلحات الثلاثة التي وضعت لكل قبيل من الأفعال للاحظنا أنَّ مصطلح (الماضي) مأخوذ من حقل الزمن، وقسيماه الحال والمستقبل، بينما مصطلح (المضارع) مأخوذ من حقل العلاقات الشكلية، إذ إن معنى المضارع المشابه، والمقصود به هنا الفعل المشابه للاسم، وقد تحدث النحاة عن أوجه الشبه بينهما وأرجعوا بعضها إلى اللفظ وبعضها إلى التركيب، وكان من المتوقع أن يكون قسيم الفعل المضارع للاسم الفعلَ غيرَ المضارع أو المباينَ للاسم، أما فعل (الأمر) فقد أخذ من حقل الخبر والإنشاء فالأمر نوع من أنواع الإنشاء الطلبي يمكن أن يكون قسيمه النهي والاستفهام والتمني ... إلخ، كما يمكن أن يكون قسيما للخبر، فيكون عندنا فعل أمر وفعل نهي وفعل خبر مثلا.
ويظهر من هذا التحليل أن كل مصطلح مأخوذ من حقل مختلف، وليس حقل الزمن هو الجامع للثلاثة، ومن ناحية أخرى فإن الدلالة الزمنية قد تكون مشتركة كما بين المضارع والأمر في الدلالة على الاستقبال.
وهذا ـ فيما أرى ـ ينفي أن تكون جهة الزمن هي حيثية التقسيم، لكن هل يعني ذلك أن النحاة خلطوا بين عدة جهات ولم يقسموا الفعل من جهة واحدة؟
الواقع أن مثل هذا الخلط بعيد جدا أن يقع ممن شيدوا صرح علم كعلم النحو، يصف لغة مترامية الأطراف وصفا على درجة كبيرة من الدقة، والذي يبدو أنهم قسموا الأفعال في العربية من حيثية واحدة يمكن أن نطلق عليها حيثية الصيغة وأعني بها مجموع الأحكام الصرفية والنحوية المشتركة بين طائفة من الأفعال دون غيرها، فلما خرج معهم ثلاثة أصناف أطلقوا على كل صنف مصطلحا معبرا عن الخصيصة العظمى له، فأخذوا مصطلح (الماضي) للصنف الأول لأنَّه دال عليه دون الحال والاستقبال، في حين يدل المضارع على زمنين ويشترك مع الأمر في الاستقبال. وأخذوا مصطلح (المضارع) للصنف الثاني لأن ما يتميز به عن الماضي والأمر هو أنه يشبه الأسماء ومن ثم أعرب، ويشترك الماضي والأمر في عدم مشابهة الأسماء، وأخذوا مصطلح (الأمر) للصنف الثالث لأنه يتميز به عن الماضي والمضارع لأنهما دالين على الخبر وهو دال على الطلب، فكل قبيل أخذ المصطلح الدال على ما يميزه، وإن لم تكن المصطلحات الثلاثة معبرة عن حيثية التقسيم.
وقد كان مبعثُ هذه الفكرة لديَّ شرحَ الأستاذ محمود شاكر رحمه الله تعالى لتعقيب عبد القاهر الجرجاني على عبارة سيبويه: «وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، وما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع» حيث فرق عبد القاهر بين هذه العبارة وقول النحاة: « والفعل ينقسم بأقسام الزمان : ماضٍ، وحاضرٌ ومستقبلٌ »، حيث قال عبد القاهر: «وليس يخفى ضعف هذا في جنبه وقصوره عنه»، وهنا بدأ الأستاذ شاكر يشرح الفرق بين عبارة سيبويه وعبارة من بعده مبينا أن سيبويه لم يرد بيان أمثلة الفعل التي هي عندنا ماض ومضارع وأمر ولكن أراد بيان الأزمنة التي تقترن بهذه الأمثلة، ولمن شاء أن يراجع كلام الأستاذ شاكر في (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) ص10-13.
***
2- الأمر الثاني الذي توقفت عنده في هذا المبحث هو بعض ما ورد من تعريفات للفعلين اللازم والمتعدي، فقد ورد أن الفعل اللازم هو «الفعل الذي يكتفي بفاعله في إتمام المعنى المراد، ولا يحتاج إلى شيء بعده كالمفعول».
كما ورد أن الفعل اللازم هو «ما لا يتعدى أثره فاعله ولا يتجاوزه إلى المفعول به، بل يبقى في نفس فاعله، نحو ذهب سعيد وسافر خالد».
وكل تعريف يثير إشكالا، فالقول بأن الفعل اللازم هو ما يكتفي بفاعله ولا يحتاج إلى مفعول به يتداخل مع تعريف الفعل التام بأنه ما يكتفي بمرفوعه، مع أن التام يشمل اللازم والمتعدي، والقول بأن الفعل اللازم هو ما لا يتعدى أثره فاعله يمنع دخول نحو: جلس زيد على الكرسي ، ونظر عمرو إلى السماء، مما يتعدى أثره فاعله بواسطة حرف الجر.
وفي المقابل ورد أن الفعل المتعدي هو «الفعل الذي لا يكتفي بالفاعل وإنما يتعداه إلى المفعول به ليكتمل المعنى، نحو سمع زيد القرآن ...» و«أن طلب الفعل المتعدي للمفعول ضروري من حيث المعنى» ، ويرد على هذا أن الفعل المتعدي هو فعل تام و(ذو تمام ما برفع يكتفي)، فكيف يقال إنه لا يكتفي بالفاعل؟
كما ورد أنه «ما يتعدى أثره فاعله ويتجاوزه إلى المفعول به» وهو بهذا الإطلاق يُدخِل ما سبق من نحو (جلس زيد على الكرسي).
والذي يبدو لي أن ضبط اللزوم والتعدي بصورة العمل يخرجنا من هذه الإيرادات، فإذا قلنا: إن الفعل اللازم هو ما لا ينصب مفعولا به، إمَّا لأنَّه لا يصل إلى المفعول به بنفسه، بل بواسطة حرف جر، أو لأنَّه ليس له مفعول به أصلا لأن معناه قائم بالفاعل - أخرجناه من مطابقة تعريف الفعل التام، وأدخلنا فيه ما يصل إلى المفعول به بواسطة حرف الجر.
وإذا قلنا إن الفعل المتعديَ هو ما ينصب مفعولا به، أو هو الذي يصل إلى المفعول به بنفسه، أخرجنا منه ما يصل بحرف الجر من جهة، والفعلَ الناقص من جهة أخرى؛ وذلك لأن الفعل الناقص لا ينصب مفعولا به ولا يرفع فاعلا، لأنه فعل يتسلط على علاقة الإسناد القائمة بين معموليه لا على المعمولين نفسهما، فقولنا: صار زيد مريضا، تتسلط فيه (صار) على علاقة الإسناد القائمة بين (زيدٌ) و(مريضا)، أما قولنا: صار زيد كتابًا، أي ضمه إليه، فعلاقة الإسناد قائمة بين (صار) و(زيد)، ويأتي (كتابا) ليكون هو ما وقع عليه فعل الفاعل.
***
3- أما الأمر الثالث والأخير الذي أثاره هذا المبحث لديَّ فهو التساؤل حول غاية الإحصاءات في التحليلات النصية والأسلوبية، فالذي يبدو لي أنَّ مجرد ذكر عدد مرات الورود دون الخلوص إلى العلاقات التي تشكل سمات خاصة بنص دون نص، أو يمكن أن يُتكأَ عليها في تحديد دلالةٍ ما؛ لايبدو ذا أهمية كبيرة في التحليل، ويحسن بنا في هذا المقام استحضار كلام الدكتور سعد مصلوح – وهو من هو في الدراسات اللسانية والأسلوبية – إذ يحدد المجالات التطبيقية للمقياس الأسلوبي الإحصائي في وجهين «أولهما : تأسيس علاقة بين المتغيرات الأسلوبية بهدف الكشف عن الخصائص الأسلوبية المائزة، وهو الهدف الوصفي. ثانيهما: تأسيس علاقة بين الخصائص الأسلوبية المائزة بهدف الكشف عن نعوت الأسلوب، وهو الهدف التقويمي. وكلا الهدفين واقع في مجال التشخيص الأسلوبي، إلا أن أولهما ينصرف إلى تشخيص الأساليب، وثانيهما ينصرف إلى تشخيص نعوت الأساليب» [في النص الأدبي دراسة أسلوبية إحصائية، ط.عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ص75].
***
وأما على مستوى الدلالة النصية فقد تناول البحث الفعل (هدى) من جهة (الإثبات والنفي) ، ويثير هذا المبحث مسألتين للحوار إحداهما كلية والأخرى جزئية:
1- فأما المسألة الكلية فتتمثل في التساؤل التالي: هل النفي والإثبات معنيان ينتميان إلى الدلالة النصية أو إلى الدلالة النحوية؟
الواقع أننا نستطيع نسبتَهما إلى كل من المستويين ولكن مع اختلاف طبيعتِهما، فإذا كان المقصود بالنفي دخولَ أداة من أدوات النفي المعروفة في علم النحو مثل: لا ولن ولم وما وإنْ وليس على الجملة، وبالإثبات خلوَّ الجملة منها ـ فأعتقد أننا جميعا سنتفق على أن هذه دلالة نحوية تنتمي إلى ما يسميه النحاة بالمعاني العامة التي تحدثها الحروف في الجمل، كالتوكيد والتمني والشرط، وحينئذ يكون الكلام عن نفي الفعل وإثباته من باب الكلام في الدلالة النحوية لا النصية.
وأمَّا إذا كان المقصود بالنفي والإثبات ما يتحصل من نص كامل أو جزء منه أكبرَ من الجملة، كما لو ألقى أحد المسئولين خطبة يثبت فيها أن الأمور تسير على ما يرام، فرد عليه أحد الكتاب بمقال ينفي فيه استقرار الأوضاع ـ فإنَّ هذا النوع من النفي والإثبات لا يتحصل إلا بمجموع النص، ومن ثم يمكن أن ينسب إلى الدلالة النصية أي المأخوذة من النص في مجموعه.
وهذا يقودنا إلى فتح باب الحوار حول ما تتميز به الدراسة النصية ولابد أن يتحقق فيها، إذ لا يكفي ـ فيما أرى ـ أن تتعلق الدراسة بنص من النصوص حتى تسمى دراسة نصية، خصوصا بعد أن ظهر اتجاه الدرس النصي تحت ما يسمى بعلم النص أو علم لغة النص أو لسانيات النص أو نحو النص، إذ أصبحت (الدراسة النصية) مصطلحا يدل على انتماء الدراسة لحقل بعينه يقتضي أن تتسم بسماته، والذي يبدو لي أن أبرز هذه السمات هي:
أ- وَصْلُ النصِّ اللغوي بالمقام.
ب- الاهتمام ببيان عناصر الترابط والتماسك بين أجزاء النص.
ج- السعي إلى فهم النص وتفسيره استنادًا إلى مقولات لغوية بالإضافة إلى مقولات غير لغوية، وما يرتبط بذلك من مشكلات مثل دور القارئ في تحديد المعنى.
د- تفسير عناصر النص في إطار وحدة كلية له، فدلالة المفردات والجمل خارج النص ليست هي بالضبط دلالتها داخله.
***
2- وأما المسألة الجزئية فهي الوقوف عند تفسير قوله تعالى: ﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء﴾ [القصص:56] على أن فيه تبرئةً لساحة النبي ﷺ من الهوى في دعوته، «وكأنه تعالى يقول له: إنك يا محمد لستَ ممن لديهم هوًى فيدعون من يحبون ولا يدعون من لا يحبون»، وإذا كان لي أنْ أعقب على هذا المعنى، فإني في الحقيقة لم أفهم وجه استنباطه من الآية الكريمة، ذلك أن الهداية ـ وكما قرر البحث ـ إما أن تكون هدايةَ إرشاد ودلالة على طريق الحق وهي ثابتة للنبي ﷺ، وإما أن تكون هدايةَ توفيق للإيمان وإدخال له في القلوب وهذه بيد الله تعالى وحده، فإذا حُمِلَت الهداية في قوله تعالى: ﴿لا تهدي﴾ على هداية التوفيق فالنبي ﷺ لا يدخل الإيمان في قلب أحد لا مَنْ أحب ولا من لم يحب، لأن هذا لله وحده، فلا مجال للقول بأن المعنى (إنك لا تهدي من أحببت فقط لأنك لا تتبع الهوى)، وإنما ذكر (من أحببت) دون غيرهم لأن سبب النزول يتعلق بهم حيث قيل إنها نزلت في أبي طالب عم النبي ﷺ حين مات ولم يسلم، ولأن ذكرهم يغني عن ذكر غيرهم فهو من الإيجاز البليغ، أو لأنَّ كل من يدعوه النبي ﷺ فهو يحب هدايته فليس ثمة أحد لا يحب النبي ﷺ هدايتَه، وهذا على أنَّ التقدير: (من أحببت هدايته) لا (من أحببته).
وإنْ حملت الهداية على هداية الإرشاد والدلالة فهل يكون معنا دليل على تقدير محذوف حتى يكون المعنى : إنك لا ترشد من أحببت فقط، أو من أحببت دون من لم تحب؟! ثم هل يستقيم أن تكون الهداية الأولى بمعنى الإرشاد والثانية بمعنى التوفيق مع أن الحرف (لكنَّ) يقتضي اتحادهما في المعنى حتى يتم الاستدراك الذي هو تعقيب الكلام برفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه؟! إذ إن قوله تعالى: ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾ يتوهم منه نفي الهداية مطلقا عمن أحب النبي ﷺ، فعقب بقوله تعالى: ﴿ولكن الله يهدي من يشاء﴾ لرفع نفي مطلق الهداية عمن أحب النبيُّ ﷺ بما يقتضي إثباتها للبعض بحسب مشيئة الله عز وجل، فإن جعلنا الهداية الأولى إرشادا والثانية توفيقا لم يتم الاستدراك، وإذا جعلنا الثانية أيضا إرشادا فسد المعنى لأنَّ الله تعالى تكفل بإرشاد جميع الخلق، قال تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِين﴾ [آل عمران: 138]، فلا يبقى إلا أن نجعلهما معا من قبيل هداية التوفيق وحينئذ يمتنع المعنى المذكور لما سبق.
والله تعالى أعلى وأعلم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
كتبه: د/تامر أنيس
الأربعاء، 30 مارس 2011
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)