الاثنين، 28 يناير 2013

بين مفهومي العهد والتعريف عند النحاة


(1)  مثار البحث:
برز معنى المعرفة ومعنى الرجوع والمعاودة في استعمال النحاة قديمًا للعهد، يقول سيبويه عن تعريف نحو: الرجل، والفرس، والبعير: «وإنَّما صار معرفة لأنك أردت بالألف واللام الشيءَ بعينه دون سائر أمته؛ لأنك إذا قلت: مررتُ برجلٍ فإنَّك إنما زعمت أنَّك مررت بواحد مِمَّن يقع عليه هذا الاسم، لا تريد رجلا بعينه يعرفه المخاطب، وإذا أَدخلت الألف واللام فإنما تُذَكِّره رجلا قد عرفه، فتقول: الرجل الذي من أمره كذا وكذا، ليتوهم الذي كان عَهْدَه ما تَذكُرُ من أمره».
فظاهرٌ في هذا السياق معنى المعرفة السابقة ومعنى الرجوع الذهني الذي عَبَّر عنه سيبويه بـ(تُذَكِّرُه) و(يَتَوَهَّم)، ومع أنَّ سيبويه لم يذكر (العهدَ) مع بقية المعارف نجده يكرر في كلِّ مرة يذكر فيها نوعًا من المعارف ـ أنَّه صار معرفة لأنه يَدُلُّ ـ بطريق ما ـ على شيءٍ بعينه دون سائر أمته.
يؤكد هذا أنَّ سيبويه حين تحدث عن الفرق بين علم الشخص وعلم الجنس، بنى شرحه للعلم بنوعيه على المعرّف بـ(أل)، فنسب لـ(الرجل) معنيين تحتملهما (أل)، ثم خَصَّ علمَ الشخص بأحدهما، وعلمَ الجنس بالآخر، والمعنى الذي اختصَّ به علمَ الشخص هو معنى تعيُّن الفرد المبنيُّ على عهدِ المخاطَبِ له، كما يتضح في قوله: «إذا قلت: هذا زيد، فـ(زيدٌ) اسم لمعنى قولك: هذا الرجل، إذا أردتَ شيئًا بعينه قد عرفه المخاطَبُ بحليته أو بأمرٍ قد بلغه عنه قد اختُصَّ به دون من يعرف، فكأنك إذا قلت: هذا زيد، قلت: هذا الرجل الذي مِنْ حليته ومن أمره كذا وكذا بعينه».
وقد أكد المبرد ـ بعد سيبويه ـ شمولَ فكرة العهد لأنواع المعارف بإضافته تنظير المعرف بالنداء بالمعرف بـ(أل) العهدية ناصًّا على (العهد) إذ يقول: «والفصل بين قولك: يا رجلُ أقبل، إن أردت به المعرفة، وبين قولك: يا رجلا أقبل، إذا أردت النكرة ـ أنك إذا ضَمَمْتَ فإنما تريد رجلًا بعينه تُشير إليه دون سائر أمته، وإذا نصبت وَنَوَّنْتَ فإنما تقديره: يا واحدًا ممن له هذا الاسم، فكلُّ مَنْ أجابك من الرجال فهو الذي عنيت، كقولك: لأضرِبَنَّ رجلا، فمن كان له هذا الاسم بَرَّ به قَسَمُك، ولو قلت: لأَضرِبَنَّ الرَّجُل ـ لم يكن إلّا واحدًا معلومًا بعينه، إلا أنَّ هذا لا يكون إلا على معهود».
وإذا وضعنا إلى جانب هذا تنظيرَه المعرف بالنداء باسم الإشارة في قوله: «واعلم أنَّ الاسم لا ينادَى وفيه الألف واللام؛ لأنك إذا ناديته فقد صار معرفةً بالإشارة بمنزلة هذا وذاك، ولا يدخل تعريف على تعريف» ـ كانت النتيجة المنطقية تنظيرَ اسمِ الإشارة بالمعرف بأل العهدية، أي أنَّ معنى العهد موجود في اسم الإشارة أيضًا.
ويضاف إلى هذين استعمالُه (العهدَ) مع ضمير الغائب، إذ يقول ـ بعد أن بَيَّن امتناعَ إضافة المنادى إلى ضمير المخاطب ـ: «فإن أضفت إلى الهاء صلح على معهود، كقول القائل إذا ذكر (زيدًا): يا أخاه أقبل، ويا أباه»، و(على معهود) متعلقان بمحذوف هو حال من (الهاء) أو من فاعل (صلح) وتقديره: عائدًا أو دالا، أو متعلقان بـ(صلح) و(على) للتعليل، أي: صلح التركيب لأجل معهود غير المخاطب، وعلى كلا التقديرين فالثابت أنه سمى مرجع الضمير معهودًا، فمعنى العهد حاضر في علاقة الضمير بمرجعه أيضًا عند المبرد.
ومع وضوح هذا الأمر فقد شاع في اصطلاح النحاة ـ من بعدُ ـ تخصيصُ العهدِ بـ(أل) وحدها، لكنَّ مفهومَ العهدِ المتناوِلَ لأنواع المعارف ظل يظهر في كلام بعضهم من حين لآخر، حتى إنَّ بعضهم ساوى بين مفهومي التعريف والعهد.
***
(2) إذا جاز القول بأن العهد يتناول أنواع المعارف كلَّها، فما مفهوم العهد؟ وما حدود العلاقة بينه وبين التعريف؟
للإجابة عن هذين التساؤلين سنبدأ بالعودة إلى كلام سيبويه الذي سبقت الإشارة إليه حول عَلَمِ الشخص وعَلَمِ الجنس، فهو ينطق بحقيقة أخرى ـ إلى جانب الحقيقة السابقة ـ هي أنه يفرق بين نوعين من التعريف يمكن أن نَسِمَهما بتعريف الشخص وتعريف الجنس، انطلاقًا من (علم الشخص) و(علم الجنس)، فأمّا تعريف الشخص فهو ما يقع على فرد مُعَيَّن عند المخاطب معروفٍ بصفاتٍ تميزه عن غيره، وأمّا تعريف الجنس فهو ما دَلَّ على معنى الاستغراق أو حقيقة الشيء؛ «لأنك إذا قلت: هذا الرجل، فقد يكون أن تعني كماله، ويكون أن تقول هذا الرجل وأنت تريد كلَّ ذكر تكلم ومشى على رجلين فهو رجل...، وإذا قلت: هذا أبو الحارث، فأنت تريد هذا الأسد، أي: هذا الذي سمعت باسمه، أو هذا الذي عرفت أشباهه، ولا تريد أن تشير إلى شيءٍ قد عرفه بعينه قبل ذلك كمعرفتِه زيدًا، ولكنه أراد هذا الذي كلُّ واحدٍ من أمته له هذا الاسم»، فهو دال على ما تجتمع فيه وهو الماهية.
وقد سار تصور التعريف لدى النحاة بعد ذلك في اتجاهين؛ أحدهما يفرق بين التعريف المعنوي والتعريف اللفظي، فيجعل تعريف الشخص مما يتحقق فيه الأمران معًا ولذلك فهو التعريف على الحقيقة، والمراد بالتعريف المعنوي: تعيين فرد واحد وتمييزه عن بقية أفراد جنسه. ومعنى تعيينه تبيينه، بحيث يكون كالمنظور إليه عيانًا، ويجعل تعريف الجنس من قبيل التعريف اللفظي فقط، أما من جهة المعنى فهو كالنكرة في الشياع.
ويَحُدُّ بعضُ أصحاب هذا الاتجاه المعرفةَ بما يخصها بتعريف الشخص، وقد عبَّر المبرد عن ذلك بقوله: «المعرفة ما وضع على شيءٍ دون من كان مثله، نحو: زيد وعبد اللَّـه»، وعَبَّر بعضهم بما يخص الواحد من جنسه، وهو ظاهر في تعريف الشخص، وعبر عنه رضي الدين الاستراباذي بقوله: «ما أشير به إلى خارج مختص إشارة وضعية»، وهذا نَصٌّ في المراد أكده بنصه على أن تعريف عَلَم الجنس والمعرف بأل الجنسية تعريف لفظي.
ومن أبرز أصحاب هذا الاتجاه ابن مالك الذي نَصَّ على أنَّ من المعارف ما هو معرفة لفظًا نكرة معنى، ويعني به ما عُرِّف تعريف الجنس كما يتضح من تمثيله بـ(أسامة)، وقد قال عنه: «وهو في الشياع كأسد»، وكان هذا مما دعاه إلى رفض حصر المعرفة بحد، واكتفى بحصرها بالعد، وهو موقف منصف حيال المعارف الجنسية إذ ينبغي أن يكون الحدُّ جامعًا، ومع هذا فإن للتعريف المعنوي قوة جعلته يقول: «المعتبر في كون المعرفة معرفة الدلالة المانعة من الشياع».
والاتجاه الثاني يجعل مفهوم التعريف المعنوي مطلقَ التعيين والتمييز ومن ثم فإنه يصدق على تعريف الجنس مع صدق التعريف اللفظي عليه، وتعريف الجنس يكون بحضوره في الذهن متميزًا عن بقية الأجناس، يقول أبو البقاء العكبري: «المعرفة ما خصَّ الواحد بعينه إما شخصًا من جنس كـ(زيد وعمرو)، وإما جنسًا كـ(أسامة) للأسد»، وقد قسم بعض أصحاب هذا الاتجاه تعيُّن المعرَّف إلى تعيُّن خارجي وهو تعيُّن الشخص وتعين ذهني وهو تعين الجنس، يقول السيوطي في تعريف العَلَم: «العَلَمُ ما وُضِعَ لمعينٍ لا يتناولُ غيرَه، فخرج بالمعيَّن النكرات، ...، ثم التعين إن كان خارجيًّا فهو علم الشخص، وإن كان ذهنيًّا بأن كان الموضوع له معينًا في الذهن أي ملاحظ الوجود فيه كأسامة علم للسبع، أي لماهيته الحاضرة في الذهن فهو علم الجنس».
ومما يرجح الاتجاه الثاني اختلافُ الأحكام اللفظية بين ما عُرِّفَ تعريفَ الجنس والنكرة، فإنه دليل على افتراق مدلوليهما، إذ لو اتحدا معنى لما افترقا لفظًا، والأصل أن يُخَصَّ كلُّ معنًى بدليل، أي: بلفظ دال عليه.
وقبل الانتقال إلى ضبط مفهوم العهد من خلال علاقته بنوعي التعريف ينبغي الإشارة إلى أنَّ تعريف الجنس ينقسم ـ كما يظهر من أقوال النحاة على خلافٍ بينهم ـ إلى قسمين:
الأوَّل: أنْ يُرادَ به استغراقُ أفراد الجنس حقيقةً أو مجازًا أي ذواتًا أو صفاتٍ، وهو الذي أشار إليه سيبويه بقوله: «لأنَّك إذا قلتَ: هذا الرجل، فقد يكون أن تعنيَ كمالَه، ويكونُ أنْ تقولَ: هذا الرجل، وأنت تريد كلَّ ذكرٍ تكلَّمَ ومشى على رجلَيْنِ، فهو رجل»، فالمراد الأوَّل على سبيل استغراق الصفات أو الاستغراق المجازي، والثاني على سبيل استغراق الذوات أو الاستغراق الحقيقي.
الثاني: أنْ يُرادَ به تعريفُ الماهية والحقيقة إمَّا مِنْ حيثُ هي هي، أيْ بقطع النَّظر عن تحقُّقِها في أفرادٍ، وإمَّا في ضمن بعضٍ مبهَمٍ، وأكثرُ مَنِ اطَّلَعْتُ على كلامِهم يَقصِدون بها المعنى الثاني حتَّى أنكرَ رضيُّ الدين وأبو حيَّان الأوَّلَ، وممن ذكرَه المراديُّ في قوله عن (أل): «والتي لتعريف الحقيقة يرادُ بمصحوبها نفسَ الحقيقة دون ما تصدقُ عليه من أفراد»، وابنُ هشامٍ إذْ يذكر من أنواع (أل) التي «لبيان الحقيقة، وضابطها أنْ يُشارَ بها وبمصحوبها إلى الماهية مِنْ حيثُ هي، نحو: أنا أحبُّ الطِّيبَ، وأشتهي اللحمَ، وقولِه تعالى: ﴿وجعلنا من الماء كلَّ شيء حيّ [الأنبياء:30]» ، «أي مِنْ هذه الحقيقة لا من كلِّ شيءٍ اسمه ماء».
كما ذكر الأشموني «أنَّ اسم الجنس الداخل عليه أداة التعريف قد يشار به إلى نفس حقيقته الحاضرة في الذهن من غير اعتبار لشيءٍ مما صدق عليه من الأفراد نحو: الرجل خير من المرأة، فالأداة في هذا لتعريف الجنس، ومدخولها في معنى علم الجنس»، كما نَصَّ عليه الخضري عند قول ابن عقيل: «ولتعريف الحقيقة»: «أي الماهية باعتبار حضورها الذهنيِّ بقطع النظر عن الأفراد، فمدخولها [أي: (أل)] كعلم الجنس في الدلالة على ذلك، إلا أنه بقرينتها والعلم بجوهره، وتسمى لامَ الحقيقةِ والطبيعةِ والماهيةِ؛ وهي الداخلةُ على المعرَّفات كالإنسان حيوان ناطق، والكليات كالإنسان نوع».
وأما الاستعمال الثاني من هذا القسم فقد أشار إليه سيبويه بقوله عن (الرجل): «قد يكون نكرة»، أي: من جهة الجزئي الذي يصدق عليه إِنْ عُدِمَ العهدُ ووجدت قرينةُ البعضية، لا من جهة اللفظ، ولا من جهة معنى الماهية أو الحقيقة.
***
نستطيع الآنَ ـ في ضوء ما سبق من آراء حول التعريف ـ الإجابةَ عن السؤالين المطروحين آنفًا حول مفهوم العهد وعلاقته بالتعريف، بمراجعة أقوال النحاة في أداة التعريف خصوصًا, وبتأمل هذه الأقوال نجدهم قد اختلفوا في العهد على خمسة آراء:
الرأي الأول: يجعل العهد نوعًا من التعريف في مقابل تعريف الجنس، فمفهومُ العهد على هذا الرأيِ المَعْرِفَةُ المُعَيِّنَة لبعض أفراد الجنس عند المخاطب، سواء أكانت سابقةً للخطاب أم مصاحبةً له، ومن الرائين لهذا: ابن السراج، وعبد القاهر الجرجاني، ورضي الدين الاستراباذي، وابن الناظم، وأبو حيان الأندلسي، وابن هشام، والجامي، والسيوطي، والخضري.
والعهد على هذا الرأي يتناول تعريف الشخص دون تعريف الجنس فهو متعلق بالجزئيات المعيَّنة، ومن ثم فمهفوم التعريف أعم منه مطلقًا.
الرأي الثاني: يجعل العهد نوعًا من التعريف في مقابل تعريف الجنس، وتعريف الحضور، فمفهوم العهد على هذا هو المعرفةُ السابقةُ لا بسبب الحضور, المُعَيِّنَةُ لبعض أفراد الجنس عند المخاطب، وممن يرى هذا الرأي المبردُ كما يُفْهَمُ من قوله: «فإذا قلت: جاءني هذا الرجل, لم يكن على معهود, ولكن معناه : الذي ترى», وأبو علي الفارسي، إلا أنه عبر عن المعهود بـ«الذي عرف حسًّا» فإن حمل على ظاهره بقي عليه ما عرف لتقدم ذكره أو سماع خبره، ولذا فأرى أن تحمل عبارته على (ما من شأنه أن يعرف حسًّا) وهو الجزئي الخارجي، ثم يخرج منه ما يعرف بحضوره حالَ الخطابِ لجعله إيَّاه قسمًا مستقلا، ومنهم: أيضا ابن برهان، وأبو البقاء العبكري، والمالقي، وتردد ابن يعيش والمرادي بين هذا القول والذي قبله.
ومن الواضح أن مفهوم العهد على هذا الرأي أخصُّ من سابقه؛ لأنه يتناول المعرفة السابقة فقط، لكنه يتفق معه في أنه يتناول تعريف الشخص دون تعريف الجنس، لكنَّ الأول يساوي تعريف الشخص، وهذا أخص منه، فهو أخص من التعريف مطلقًا أيضًا.
الرأي الثالث: يجعل العهدَ نوعًا من التعريف، والحضورَ قسيمًا له، وهو رأي ابن عصفور إذ يقول: «أعرف ما عُرِّف بالألف واللام ما كانتا فيه للحضور، ثم للعهد في شخص، ثم للعهد في جنس»، ونقل عنه السيوطي قوله: «لا يبعد عندي أن تسمى الألف واللام اللتان لتعريف الجنس عهديتين؛ لأنَّ الأجناس عند العقلاء معلومة مذ فهموها، والعهد تقَدُّم المعرفة»، ونقل أبو حيان هذا الرأي عن بعض النحاة لم يسمه.
ومن البَيِّنِ أنَّ العهد على هذا الرأي هو تقدم المعرفة مطلقًا، فيشمل تعريف الشخص وتعريف الجنس، ولا يخرج عنه إلا تعريف الشخص بالحضور؛ لأنَّ الحضور – على هذا الرأي – معرفة مقارنة لا متقدمة، وهو ـ كسابقَيْهِ ـ أخصُّ من مفهوم التعريف مطلقًا.
الرأي الرابع: يجعل العهد نوعًا من التعريف يتناول الجزئيَّ الخارجيَّ سواء أكان معيَّنًا أم كان غيرَ مُعَيَّن، ومعنى التعريف في غير المعيَّنِ يتحقق بحضور مفهومِه في الذهن، فهو في الحقيقة تعريف للجنس أو الماهية لكن في ضمن فرد مبهم، وقد سمّى بعضُ علماء المعاني هذا النمطَ تعريفَ العهد الذهني، كما فعل ابن الحاجب، وهو رأي ابن مالك أيضًا، وتبعهما على ذلك الأشموني.
يقول ابن مالك: «ويلحق به أيضًا [أي بتعريف العهد] ما يسميه المتكلمون تعريفَ الماهية كقول القائل: اشتر اللحم؛ لأنَّ قائل هذا إنما يخاطب مَنْ هو معتاد لقضاء حاجته، فقد صار ما يبعثه لأجله معهودًا بالعلم، فهو في حكم المذكور أو المشاهد»، وإن كان في كل مرة يشتري جزءًا غير الذي اشتراه من قبل، ويقول الأشموني  ـ ملخِّصًا هذا الرأيَ ـ عن اسم الجنس المحلَّى بـ(أل) التعريف: «وقد يشار به إلى حصة مما صدق عليه من الأفراد معينةٍ في الخارج لتقدم ذكرها في اللفظ صريحًا أو كناية نحو: ﴿وليس الذكر كالأنثى [آل عمران: 36]...، أو لحضورِ معناها في علم المخاطب نحو: ﴿إذ هما في الغار [التوبة:40]، أو حسِّه نحو: القرطاسَ، لمن فَوَّقَ سهمًا، فالأداة لتعريف العهد الخارجي ومدخولها في معنى علم الشخص.
وقد يشار به إلى حصة غير معينة في الخارج بل في الذهن نحو قولك: أدْخل السوق حيث لا عهد بينك وبين مخاطبك في الخارج، ومنه: ﴿وأخاف أن يأكله الذئب، والأداة فيه لتعريف العهد الذهني، ومدخولها في معنى النكرة».
فالعهد على هذا الرأي هو المعرفةُ السابقةُ لدى المخاطَبِ، المعيِّنَةُ لبعضِ أفرادِ الجنس في الخارجِ، أو في الذِّهنِ.
ومعنى التَّعَيُّنِ الذهني، أن يكون المخاطب متوقِّعًا وجودَ بعضِ أفراد الجنس في زمانٍ ومكانٍ معينَيْنِ وأحوالٍ خاصة يدركها في مقام الخطاب، وهذا التوقعُ ناشئٌ عن معرفته بتلك الظروف، وهي معرفة خاصة تتغير بتغير مقام الخطاب، ولذلك سُمِّيَت عهدًا.
ومفهوم العهد على هذا الرأي يتناول تعريف الشخص كلَّه، وصورةً واحدةً من تعريف الجنس، وهي تعريف الماهية أو الحقيقة من حيث وجودها في ضمن بعضٍ مبهم من أفرادها، ومن ثم فهو أخص من التعريف المطلق، لكنه أعمُّ من مفهومَيِ العهدِ الأولِ والثاني مطلقًا, ومن الثالث من وجهٍ.
الرأي الخامس: يجعل العهد مساويًا للتعريف، وقد نقل أبو حيان عن أبي الحجاج يوسف بن معزوز ما يفيد ذلك؛ حيث ذهب إلى أنَّ (أل) «قسم واحد في التعريف، وهي عهدية سواء أدخلت على واحد أو اثنين، أم على ما يقع على الجنس، فإذا قلت: جاءني الرجل، فمعناه: الرجل الذي عهدت بَيْني وبينك، وإذا قلت: الدينار خير من الدرهم، فمعناه هذا الذي عهدتَ بقلبك على شكل كذا خير من الذي عهدتَه على شكل كذا، فالعهدُ أبدًا لا يفارق»، وهذا رأي الروداني كما يظهر من تحريره لكون صلة الموصول معهودةً إذ يقول: «والتحرير أنَّ المراد بكون الصلة معهودة أن تكون معروفة للسامع، سواء كان تعريفها تعريف العهد الخارجي ... أو تعريف الحقيقة؛ أي من حيث هي ... أو تعريف الحقيقة في ضمن بعض الأفراد ... أو في ضمن جميع الأفراد ... فالصلة في الجميع معهودة، والعهد خارجي في الأول وذهني في غيره»، وقد نص الأمير على أنَّ من العلماء من جعل «العهدية من فروع الجنسية فإنها للجنس متحققا في فرد مخصوص، وبعضهم عكس لكنه أراد بالعهد مطلق التعريف».
والذي أختاره من هذه الآراء هو الرأي الرابع، وذلك لأنَّ ما يندرج تحته من ألفاظ يكون مفتقرًا في تعيين مدلوله إلى عهدٍ خاصٍّ بين المتكلم والمخاطب في مقام الخطاب، وهذه هي الخصيصة التي يشترك فيها غالبًا تعريف الماهية في ضمن فردٍ خارجٍ مبهمٍ مع بقية صور تعريف العهد، وليس كذلك تعريف الماهية مطلقةً ولا مرادًا بها استغراقُ الأفراد, فهما لا يعتمدان على معرفة خاصة, بل على المعرفة اللغوية العامة, ولا يعترض على ذلك باشتراط سبق معرفة المخاطب لمعانيهما؛ «لأنَّ كلَّ اسم فهو موضوع للدلالة على ما سبق علمُ المخاطب بكون ذلك الاسم دالا عليه، ومن ثَمَّةَ لا يَحسُنُ أن يخاطَبَ بلسانٍ من الألسنة إلا مَنْ سبق معرفتُه لذلك اللسان، فعلى هذا كلُّ كلمةٍ إشارةٌ إلى ما ثبت في ذهن المخاطب أنَّ ذلك اللفظ موضوع له، فلو لم نَقُلْ: إلى خارج, لدخل فيه الأسماءُ معارفُها ونكراتُها»، فوجب الاقتصار على ما يكون محتاجًا إلى معرفة خاصة.
ومع أخذي بهذا الرأي فإن هناك تعديلا طفيفًا تمليه طبيعة الاستعمال اللغوي، فقد لاحظت أنه ليس كل ما دَلَّ على جنس في ضمن بعض مبهم محتاجًا إلى هذه المعرفة، فمثلا قول اللَّـه تعالى: ﴿وجعلنا من الماء كلَّ شيء حيّ﴾ [الأنبياء:30] فيه قرينة على لحظ التشخص الخارجي لجنس الماء وهي (جعلنا)؛ لأنَّ الخلق لا يكون من الماهية بل من مشخصاتها الخارجية، ومع ذلك فلا يوجد في السياق ما يدل على تقييد هذه الماهية بشيء يحتاج إلى إدراك خاص، بل كل من يعرف معنى الماء في العربية يفهم المراد، وقد جاءت معرفة لأنَّ المراد بيان الجنس بدليل سبقها بمِن الجنسية.
أما قوله تعالى: ﴿وأخاف أن يأكله الذئب﴾ [يوسف:13] فإن تعريف الذئب يتكئ على معرفة المخاطبين بأنَّ في الصحراء ذئابًا، وهي معرفة خاصة بظروف الخطاب، غير المعرفة اللغوية العامة لمعنى الذئب، فليس المراد الذئب الذي تعرفون صفته من الافتراس ونحوه فقط، بل ـ فوقَ هذا ـ الذئبَ الذي تتوقعون وجودَه بسبب خِبْرَتِكُمْ بالمكان، فالتعريف هنا يفيد أمرين؛ أحدهما توقعُ المخاطَب بناء على معرفة سابقة بملابسات الموقف، والثاني تنبيهه إلى استحضار تلك المعرفة السابقة كي يبني تصرفه عليها، وحمله على الأول فيه تعريض بنيّتهم وهو متَّسقٌ مع معرفة يعقوب عليه السلام برؤيا ولده يوسف عليه السلام، وإحساسه بمشاعرهم تجاه أخيهم, ولو حمل على الثاني لكان فيه احتجاجٌ عليهم في عدم إرسال يوسف عليه السلام معهم، وهو وجيه أيضًا، والنكات لا تتزاحم.
فيمكننا الآنَ أن نفرق بين نمطين من تعريف الجنس في ضمن فرد مبهم؛ نمطٍ يكون فيه الفرد الخارجي المبهم مقصودًا بالحكم مع تحقق العهد لجنسه مما ينشأ عنه تقييد لهذا الجنس بظروف تَشَخُّصِهِ في الخارج التي يدركها المخاطب من المقام، ونمطٍ لا يكون فيه الفرد الخارجي مقصودًا بالحكم، بل يكون ثبوته بحكم العقل بمقتضى القرينة، ومن ثم يبقى الجنس معه على إطلاقه, وهو فرق دقيق، وسوف أعتبر النمط الأول وحده هو الذي يدخل تحت تعريف العهد، وسأسميه العهد الجنسي وأعني به أن يعهدَ المخاطَبُ تشخُّصَ الجنسِ في ظروفٍ وأحوالٍ معينةٍ دون أن يعهد الأفرادَ نفسَها.
ويظهر من التحليل السابق أن العهد ينقسم إلى عهد شخصي وعهد جنسي، وأنَّ للعهد معنى في تعريف الجنس في ضمن بعض مبهم غيرَ معناه في تعريف الشخص؛ فمعناه في تعريف الشخص تعيُّن مدلول اللفظ المعرَّف عند المخاطب وهذا التعين قد يكون حقيقيًّا وقد يكون تقديريًّا كما أشار إلى ذلك العصام بقوله: «لام العهد إشارة إلى معهود حاضر في ذهن المتكلم والمخاطب؛ إما لذكره سابقًا في كلامك أو كلام غيرك صريحًا أو غير صريح وهو العهد التحقيقي، وإمّا لتعينه وكونه معلومًا لا محالة حقيقةً أو ادعاءً لغرض وهو العهد التقديري»، وقد اقتصر في العهد التحقيقي على سبق الذكر مع أنَّ الحضور والمعاينة يفيده أيضًا بل هو الأصل في التعيين ثم ينوب عنه الذكر يقول ابن مالك:«كل اسمٍ معرفةٍ فهو مُعَيِّنٌ لمدلوله، أي: مُبَيِّن لحقيقته تبيينًا يجعله كالمنظور إليه عيانًا»، وكذلك فالإدراك الحسي لأحد أفراد جنس ما من روافد العهد الذهني أو العلمي.
وأما معنى العهد في تعريف الجنس فهو معرفة المخاطب بظروفٍ وأحوالٍ خاصة تجعله يتوقع وجود بعض أفراد الجنس في الخارج، وهذا التوقع هو الذي يتيح للمتكلم أن يستعمل اللفظ معرَّفًا، فإن كانت تلك المعرفة الخاصة غائبةً في ذهن المخاطب كان في استعمال المعرفة من قبل المتكلم تنبيه له كي يستحضرَها ويبدأ في فهم الكلام وفقًا لها, ويدخل تحت هذا النوع ما يعرف بالاستغراق العرفي، وإن لم توجد معرفة خاصة في مقام الخطاب ولم يُدَلَّ عليها في المقال، كان تعريف الجنس خارجًا عن حدود العهد وإن دلت قرينة على إرادة بعض مبهم في الخارج.
أمَّا ضمير الغائب الذي يعود إلى ما يفيد الاستغراق أو الماهية فيكفي لدخوله تحت العهد افتقاره وضعًا إلى مرجع يفسِّره؛ وذلك لأنَّ المدلول الاستغراقي والمدلول الجنسي [= الماهية] لما كانت دلالة اللفظ على كلِّ منهما بواسطة قرينة لم يعد معلومًا بمجرد الوضع اللغوي أو المعرفة اللغوية العامة، بل صار يحتاج إلى معرفة خاصة بين المتكلم والمخاطب، والافتقار إلى هذه المعرفة هو لب فكرة العهد، ويدخل هذا تحت العهد الجنسي.
فمدار العهد على افتقار اللفظ إلى ما يُعَيِّنُ مدلولَه مطلقًا أو يدلُّ على وجوده في الخارج وجودًا مقيدًا بظروفٍ  وأحوالٍ مُعَيَّنَةٍ.
وهذا يستدعي النظر في الوسائلِ التي يتحقق بها العهدُ لدى المخاطب, والقرائنِ التي يستعين بها على ربط الاسم المعرَّف بمدلوله المعهود.
***
(3) وسائل تحقق العهد:
والحق أنَّ المتتبع لكلام النحاة حول (أل) العهدية يدرك بيسر أنَّ هناك ثلاث وسائل يتحقق بها العهد لدى المخاطب هي:
1. الحضور الحسي في مقام الخطاب.
2. سبق الذكر.
3. العِلْم بالمعهود دون سبق ذكره، أو حضوره.
وإذا كان من الواضح كونُ الحضورِ وسبقِ الذِّكرِ مُنْشِئَينِ للعهد الذي هو نوعٌ مِنَ العلم؛ فإنَّ كونَ العِلْم في الذهن منشئًا له غير ظاهر؛ لأنَّ العلم نفسَه هو العهدُ، لا وسيلةٌ مفضية إليه، والجواب عن هذا الإشكال أنَّ الذين نوّعوا العهد من حيث وسيلته، قالوا ينقسم إلى: عهد حضوري وذكري وعلمي أو ذهني، فنسبوا القسمين الأولين إلى وسيلة منضبطة محددة، ثم وجدوا أن ما عدا هذين القسمين لا ينضبط بوسيلة فنسبوه جملةً تارةً إلى العلم ومرادهم أسباب العلم ووسائله المتكاثرة التي لا تنضبط من جهة نسبتها إلى مقام الخطاب إلا بأثرها وهو حصول المعهود في ذهن المخاطب، وتارةً إلى الذهن الذي هو محلٌّ للعهدِ والعلمِ مطلقًا، فكلُّ عهدٍ إنما يقع في الذهن، كما أنَّ رَبْطَ المخاطَبِ بينَ اللفظِ المعرَّفِ ومدلولِه المعهودِ إنما يكون بحركة الذِّهنِ. والحاصل أنَّ المراد بالثالث من وسائل تحقق العهد في ذهن المخاطب ليس أمرًا واحدًا بل كل وسيلة لا تنضبط علاقتُها بالسياق المقامي والمقالي، وذلك ما عدا الحضورَ وسبقَ الذِّكرِ.     
وقد جمع ابنُ مالك الحضورَ المقامِيَّ وسبقَ الذِّكرِ تحتَ مُسَمَّى الحضورِ الحسيِّ، وأطلق على الوسيلة الثالثة الحضورَ العِلْمِيَّ فقال: «فإِنْ عُهِدَ مدلولُ مصحوبِها بحضور حسيٍّ أو علميٍّ فهي عهدية».
ثم قال: «أشرتُ بالحضور الحسي إلى حضورِ ما ذُكِرَ كقوله تعالى: (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا . فعصى فرعون الرسول) [المزمل: 15، 16]، وإلى حضورِ ما أُبْصِرَ كقولك لمن سدد سهمًا: القِرْطاسَ واللَّـه، وبالحضور العلمي إلى نحو قوله تعالى: ... (إذ هما في الغار) [التوبة: 40]».
وهذه الطريقة تُراعِي طبيعة وجود المعهود فهو إمّا وجود خارجي في الواقع أو في اللفظ, وإمّا وجود ذهني، ويمكن أن يستمثر ذلك عند التحليل في تحديد درجةِ تَعَيُّنِ المعهودِ.
ولكنَّ الحضور الذي جعله ابنُ مالكٍ جامعًا لوسائل العهد سابقٌ على التلفظ بالمعرفة، وهو يختلف عن الحضور في الذهن الذي ينشأ عن استعمال المعرفة، ومن يقرأ عبارة عصام الدين في الأطول: «لامُ العهدِ إشارةٌ إلى معهودٍ أي مُدرَكٍ حاضرٍ في ذهن المتكلم والمخاطب، إما لذكره سابقًا ... وإما لتعَيُّنِه وكونه معلومًا لا محالة»، يشعر أنه يوحد مفهومي الحضور؛ لأنه لم يُفَرِّقْ بين وظيفة المتكلم ووظيفة المخاطب، والواجب ـ فيما أرى ـ التفريقُ بينهما؛ لأنَّ وظيفة المتكلم قبل التلفظ ووظيفة المخاطب بعد التلفظ، نعم؛ رعايةُ حالِ المخاطَبِ مؤَثِّرةٌ في اختيار المتكلم، لكنَّ المرادَ بوظيفة المخاطب هنا فهمُه للخطاب وانفعالُه به، لا دورُه في عملية الخطاب عمومًا، فمن المعقول أن تختلف الوظيفتان، فيقالَ: إنَّ العهد عملية لها خطوتان:
الأولى: معرفةٌ بالمعهود سابقة لاستعمال اللفظ مُعَرَّفا، وهي ناشئةٌ إما عن الحضور في المقام أو الذِّكْرِ في المقال أو غيرهما كالشهرة مثلا، والمقصودُ هنا المعرفةُ الحاصلةُ للمخاطَبِ التي اطَّلَعَ عليها المتكلِّمُ، مع سببها؛ حتى يستعملَ اللفظَ اللائق بالسبب، ومراعاتُها وظيفةُ المتكلم.
الثانية: حضورٌ لهذا المعهود في الذهن، وهو تالٍ لاستعمال اللفظ مُعَرَّفًا؛ لأنه ناشئ عنه؛ لأنَّ لفظ المعرفة هو الذي يدعو الذهن إلى أن يتحرك بحثًا عن المعهود لتعيينه أو تعيين إطاره، وحينئذٍ ينقلب ما كان سببًا للعهد في الخطوة الأولى قرينةً على تعيين المعهود، والقيامُ بهذه الخطوة وظيفةُ المخاطَبِ.
ومعنى هذا أنَّ الحضورَ أو بالأحرى الإحضارَ في الذهن جزءٌ من عملية التعريف العهدي، يمثل أثَرَ استعمالِ المعرِفَةِ لا وسيلةً للعهد ولا قرينةً على المعهود.
إن الحضور في الذهن هو التَّعْيِينُ الذي يُراد من استعمال المعْرِفَة، وهو يتم بانتقال الذهن من اللفظ المعرَّفِ إلى مدلوله المعيَّنِ، مستعينًا بقرينة غالبًا، وهذا الانتقال هو ما أسميه بالإحالة العهدية.
ويمكننا أن نسمي هذه العملية التي تجري في عقل المتلقي بالإحالة العهدية، ونعني بها انتقال الذهن من اللفظ الموضوع ليستعمل في معهود (في شخصٍ مُعَيَّنٍ أو جنسٍ في ضِمْنِ فردٍ مبهمِ الذاتِ معيَّنِ الإطار) ـ إلى ذلك المعهود الذي يتحقق وجوده في الذهن بواسطة قرينة التعيين التي ترجع إلى المقام أو المقال.
وحتى يزدادَ الأمرُ وضوحًا دَعْنا نتأملْ قولَ ابنِ مالك: «كلُّ اسمٍ مَعْرِفَةٍ فهو مُعَيِّنٌ لمدلولِه ... إلا أنَّ غيرَ العَلَمِ يُعَيِّنُ مسمَّاه بقيدٍ، والعَلَم يعيِّنُ مسماه دون قيد، ولذلك لا يختلف التعبير عن الشخص المسمى زيدًا بحضور ولا غيبة بخلاف التعبير عنه بـ(أنت) و(هو)» ، مع قول ابنه: «كل معرفة ـ ما خلا العلم ـ دلالته على التعيين بقرينة خارجة عن دلالة لفظه، وتلك القرينة إمّا لفظية كالألف واللام والصلة، وإما معنوية كالحضور والغيبة».
فسنلاحظ أنَّ بدر الدين استعمل (القرينة) مكان (القيد) الذي استعمله والده، وهذا يدفع إلى التساؤل: هل القرينة والقيد بمعنى واحد؟ ويمكننا الإجابة بتحليل مثالين مستفادين من كلام ابن مالك، هما:
          - زيد يحب الخير.
          - أنت تحب الخير. (مقولةً لزيدٍ).
          إذ نجد أن المعرفة في المثال الأول تدل على أمرين فقط، هما:
          1- ذات متسمة بالإفراد والتذكير.
          2- تعين تلك الذات وانحاصرها في شخص واحد هو المسمى زيدًا.
أمّا المعرفة في المثال الثاني فإنها تدل على أمر ثالث مع السابقين، هو:
          3- معنى الحضور في الحدث الكلامي في جهة الخطاب لا التكلم.
وهذا الأمر الثالث هو الذي سماه ابن مالك (قيدًا) وهو موجود في كل المعارف ماعدا العلمَ، لكنه يختلف من نوع لآخر فهو في الضمائر الحضور والغياب عن الحدث الكلامي، وفي أسماء الإشارة كون مدلولاتها مشارًا إليها، وفي الاسم الموصول كونه مفتقرًا إلى صلة تتممه، وفي المعرف بـ(أل) دخول (أل), وفي المنادى كونه مطلوبًا إقباله، وكل هذه القيود ـ باستثناء (أل) ـ تمثل مدلولات إضافية للمَعْرِفَة، أمَّا (ألْ) فهو قيد لفظي لكنه ـ في النهاية ـ كالجزء من لفظ المعرفة، فالقيد إما أن يكون جزءًا من المعنى أو من اللفظ.
وأمّا القرينة فهي متعلقة بالأمر الثاني، وذلك أنَّ تعيين مدلول المعرفة لا يَتَوَصَّلُ إليه المخاطبُ أو المتلقي عمومًا إلا بمعونة أمر خارجي، أيْ خارج اللفظ يكون دليلا له، وهذا الدليل هو القرينة المعينة للمدلول، وهي شيء لابد منه في كل المعارف العهدية، بما فيها العلم، بخلاف المعارف الجنسية التي يكفي في تعيين مدلولها المعرِفَةُ العامة بالمعنى المعجمي لها.
ويشهد لهذا التحليل قول السنباطي: «وقد يعترض [على حد العلم] بأنَّ دلالته على تعيين مسماه ليست مطلقة بل بقرينة الوضع وجوابه ما أشار إليه الشارح بقوله: بمجرد الوضع أو الغلبة، وحاصله أنَّ المراد بـ(الإطلاق) ـ بقرينة قوله: وخرج ... إلخ ـ عدمُ احتياجه في دلالته على تعيين مسماه إلى قرينة لفظية أو معنوية غير الوضع فإنَّ الاحتياج إلى قرينة الوضع موجود في كل من الحدِّ والمُخْرَج المذكور».
ومحل الشاهد في هذا الكلام أنه مشعر باحتياج العَلَم في تعيين مسماه إلى قرينة، وهذا عين ما أريد إثباته، غير أني أخالفه في جعل هذه القرينة هي الوضعَ مجردًا هكذا، وأرى أنها العِلْمُ بالوضع، أي: علم المخاطب بالوضع، لأنَّ وَضْعَ العَلَم وضعٌ خاصٌّ وليس عامًّا يعرفه كل أبناء اللغة؛ فلابد من إحداث عِلْمٍ للمخاطب بأنَّ هذا العَلَم موضوع على ذاتٍ تتعين عنده بقرائن أخرى تعود إلى المعاينة والإخبار، فأوَّلُ تحققٍ للعهد في العَلَم عند أوَّلِ إخبار للواضع به حيث يُعَدُّ هذا الإخبار نفسُه عهدًا بين الواضع والمخبَر به.
وعلى هذا فالمراد بالقرينة ما يستعين به المخاطب على الربط بين الدالِّ الذي هو اللفظ المعرَّفُ تعريفَ عهدٍ، والمدلول الذي هو الشيء المعيَّن المعهود المراد بذلك اللفظ، ولولا هذه القرينة ما كان اللفظ وحدَه كافيًا في تعيين المراد، وهذه القرينة جزء مهم في عملية الإحالة العهدية، فهي تقوم بوظيفتين أساسيتين لهذه العملية الأولى إنشاء العهد لدى المتلقي، والآخِرة الربط بين المحيل والمحال إليه.
وهذا التفريق بين القرينة والقيد ظاهرٌ بَيِّنٌ في المعرَّف بـ(أل) العهدية؛ لأن القيد فيه لفظي والقرينة هي الحضور أو سبق الذكر أو سبق العلم بوسيلة أخرى وهي منفصلة عن اللفظ المعرَّف، لكنّه في بقية المعارف يحتاج إلى وقفة تستجلي طبيعة العهد فيها لتصل إلى تمييز قيد التعريف عن قرينته في كلٍّ منها.
فأما الضمير فتَعَرُّفُه بالعهد يظهر في قول سيبويه: «وأما الإضمار فنحو: هو وإياه ... وإنما صار الإضمار معرفة؛ لأنك إنما تضمر اسمًا بعدما تعلم أنَّ مَنْ تحدِّثُ قد عرف مَنْ تعني وما تَعْنِي، وأنك تريد شيئًا يعلمه».
فهو يشير إلى أن معرفة المخاطب السابقة بالمدلول المعيَّن وبأنَّ الضمير دال عليه ـ وهي أساس مفهوم العهد ـ هي التي تجعل الضمير معرفة، وفي الوقت نفسه تتيح للمتكلم استعمال الضمير بصفته معرفة، ومن الملاحظ أنه يشير إلى وظيفة المتكلم ومن ثم فلم يصرح بالقرائن التي تُعِينُ المخاطب على تعيين ما يقصده المتكلم، ويقول المبرد مؤكدًا تعرُّفَ الضمير بالعهد: «فالمضمرةُ لا تُنْعَتُ لأنَّها لا تكونُ إِلا بعدَ معرفةٍ لا يَشوبها لَبْسٌ».
وأمّا القرينة المعيِّنَة للمعهود مع الضمير فقد نص عليها ابن برهان بقوله: «فتقدم اسم الغائب قرينة، وحضور المتكلم والمخاطب قرينة، والذي عرّف الضمير غايةَ التعريف هو حضورهما والمشاهدة لهما، وتقدمُ ذكر الغائب هو الذي يصيِّره بمنزلة الحاضر المشاهَد في الحكم».
ويؤخذ من هذا أن القرينة المعيِّنة للضمير في الأصل إمَّا أنْ تكون العهد الحضوري وذلك مع ضمير المتكلم والمخاطب، والحضور المعيِّن لهما هو الحضور الحسي المطلق أي من غير مراعاة لكونهما طرفين في الخطاب، وهذا بخلاف الحضور الذي هو قَيْدٌ فيهما؛ لأنه حضور مخصوص بحالة الخطاب؛ ولذلك يعد كل ما سوى المتكلم والمخاطب غائبًا وإن كان معهما، إذ المعنى أنه غائب عن الخطاب وليس طرفًا فيه، وهذا القيد شيء ثابت، متحقق للضمير بالوضع، وهو خلاف القرينة التي تتحقق في الاستعمال، وتختلف من استعمال لآخر.
أو العهد الذكري وذلك مع ضمير الغائب، حيث يتعيَّن مدلوله غالبًا بتقدم ذكر ما يفسِّرُه معنى أو لفظًا أو حكمًا، نحو: (ولقد آتينا إبراهيم رشده) [الأنبياء: 51]، فـ(إبراهيم) الذي هومرجع الضمير في (رشدَه) قرينة تعيِّنُ المراد منه، وهو مسمى هذا الاسم ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـ، وهذا يعني أنَّ مرجع الضمير ليس هو المحطَّ النهائي لذهن المتلقي, بل هو واسطة إلى مفهومه الذهني ومدلوله الخارجي، يقول أبو البقاء العكبري: «الضمير لا يدل على المسمى بنفسه»، أيْ أنه يدل على المسمى بواسطةٍ، وهي المرجع أو المفسر، وهو نوع خاصٌّ من قرائن العهد الذكريَّة، وربما احتاج إلى قرينةٍ وسيطة لربط الضمير به، أو إلى قرينة تالية له لتعيين مدلوله، أو عُضِّدَ بقرينةٍ مساوقةٍ لمزيد بيانٍ.
وأما اسم الإشارة فإنه يتعرف بالعهد الحضوري، يقول عبد القاهر الجرجاني موضحًا هذا: «فإنما كان معرفة لأجل أنك تشير إلى شيء بحضرتك، فالإشارة تفيد التعريف لأنها تَخُصُّ وتَفْصِل».
          ومن أوضح ما اطلعت عليه في بيان تعريف اسم الإشارة قول ابن يعيش: «ومعنى الإشارة الإيماء إلى حاضر بجارحة أو ما يقوم مقام الجارحة، فيتعرف بذلك، فتعريف الإشارة أن تخصص للمخطاب شخصًا يعرفه بحاسة البصر، فلذلك قال النحويون: إنَّ أسماء الإشارة تتعرف بشيئين؛ بالعين والقلب»، وهذا صريح في أن تعريف اسم الإشارة معتمد على حضور مدلوله وإدراك المخاطب الحسي له، وقرينة التعريف هنا ليست مجرد الحضور، بل الحضور مع الإشارة المخصِّصَة.
فمعنى اسم الإشارة «هذا الحاضر المشار إليه»، و«تعريف الحضور هو أنْ يُشارَ باللفظ إلى فرد حاضر»، ويقول الخضري: «اسم الإشارة: هو ما وضع لمشار إليه أي حسًّا بالأصبع ونحوه؛ فلابد من كونه حاضرًا محسوسًا بالبصر، فاستعماله في المعقول والمحسوس بغيره مجاز ... فخرج ضمير الغائب و(أل) لأن إشارتهما ذهنية»، وقال الصبان: «كون الإشارة حسية يستلزم كون المشار إليه محسوسًا بالبصر حاضرًا فاستعماله في غيره مجاز»، ويقول الرضي: «وضع أسماء الإشارة للحضور والقرب على ما قلنا: إنه للمشار إليه حسًّا، ولا يشار بالإشارة الحسية في الأغلب إلا إلى الحاضر القريب الذي يصلح أن يقع مخاطبًا».
ويتضح من هذه الأقوال أنَّ القيد في اسم الإشارة هو كون مدلوله مشارًا إليه وهذا وضعي ثابت، أما القرينة فهي الإشارة الفعلية المتجددة بالاستعمال، وهي تقتضي الحضور فهي وسيلة من وسائل العهد الحضوري، إلى جانب التكلم والخطاب والإقبال في النداء.
ومن الملاحظ ـ من الأقوال السابقة أيضًا ـ أنَّ قيد اسم الإشارة قد يتخلف عند الاستعمال، فيحمل على المجاز، وهذا دليل على أنَّ القيد جزء من المدلول الوضعي للفظ، أمّا القرينة المعينة فإنها لابد منها، ولذلك إذا تخلفت الإشارة الحسية حل محلَّها قرينةٌ أخرى لفظية، ويوضح هذا قول المبرد: «من قال: يا زيد الطويلَُ، قال: يا هذا الطويلَُ، وليس بنعت لهذا، ولكنه عطف عليه، وهو الذي سُمِّيَ عطفَ بيان. ألا ترى أنك إذا قلت: جاءني زيد، فخفت أن يلتبس الزيدان على السامع أو الزيود قلت: الطويلُ, وما أشبهه؛ لتفصِلَ بينه وبين غيره, ولا تذكرُ إلا ما يخصُّه مما له مثلُ اسمِه. وإذا قلت: جاءني هذا، فقد أومأت له إلى واحد بحضرتك، وبحضرتك أشياءُ كثيرةٌ، فإنما ينبغي أن تُبِينَ له عن الجنس الذي أومأت إليه؛ ليفصل ذلك من جميع ما بحضرتك مما يراه، فأنت هناك إنما تخص له شيئًا من شيء مما يعرفه بقلبه، وأنت هاهنا إنما تُبِينُ له واحدًا من جماعة تلحقها عينه».
فتابعُ اسمِ الإشارة هو القرينة اللفظية التي تُقوِّي القرينةَ المقامية، أي الإشارة، أو تعوِّضُها متى تخلفت.
وقريب من اسم الإشارة تعريف المنادى بالقصد والإقبال فإنه داخل تحت العهد الحضوري، لكنَّ وسيلتَه هنا هي الإقبال على المنادى، وهذا الإقبال المتغير والمتجدد بالاستعمال هو قرينة التعيين، وهو من باب الإقبال على مخاطب معين في مكان يتعدد فيه الأشخاص، أمّا القيد هنا فهو كون اللفظ مع دلالته على معيّن دالا على أنَّ مدلوله منادًى مطلوبُ الإقبال والإجابة.
وأمّا الأسماء الموصولة فتحتمل العهد والجنس، والذي يحدد ذلك هو صلة الموصول؛ لأنَّ الاسم الموصول مفتقر دائمًا إلى الصلة وهو «على حياله غيرُ مستقلٍّ جزءًا، والتعريف والتنكير فرع الاستقلال»، ويبين ابن مالك هذا بقوله: «المشهور عند النحويين تقييد الجملة الموصول بها بكونها معهودة، وذلك غير لازم؛ لأنَّ الموصول قد يراد به معهود ـ فتكون صلته معهودة، كقوله تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمتَ عليه) [الأحزاب: 37] ... وقد يراد به الجنس فتوافقه صلته كقوله تعالى: (كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء [البقرة: 171] ... وقد يقصد تعظيم الموصول. فتبهم صلته»، ونقل الصبان عن الروداني ما يفيد إجراء معاني (أل) المعرفة على الاسم الموصول.
وعلى هذا فكما يتناول العهدُ بعضَ ما عُرِّفَ بـ(أل) فإنه يتناول بعضَ الموصولات التي تستعمل في معيَّن أو تدل على الجنس في ضمن فردٍ مبهمٍ مقصودٍ بالحكم، وقرينةُ تعيينِ المرادِ بالموصولِ هي العهدُ الذي في الصلة، والقيد هو الارتباط بين الموصول وصلته الناشئ عن افتقار الموصول، والعهد قد يتحقق وقد يتخلف، والارتباط متحقق دائمًا أريد بالموصول العهد أو الجنس.
وهذا فيما أرى – أولى من جهةٍ – مما ذهب إليه الفارسي من أنّ تعريف الموصول بالعهد الذي في الصلة لكونه غيرَ جامع، وأولى – من جهة أخرى – مما ذهب إليه ابن الحاجب من أنَّ تعريف الموصول وصلته معًا بالموصول، وأنَّ الأسماء الموصولة «وضعت في تعريف الجمل مثل اللام في تعريف المفرد ... وقام الدليل على أنَّ اللام حرف، وعلى أنَّ الذي اسم فوجب أن يتبع، ولا بعد في أن يكون الاسم يفهم منه التعريف»؛ لأنَّ المعرّف على هذا هو جملة الصلة والموصول أداةٌ لتعريفها مع أن التعريف من سمات الأسماء لا الجمل، والمعدود في المعارف هو الاسم الموصول لا الصلة، بخلاف المعرف بأل، فإنَّ مدخولها هو المعدود في المعارف لا (أل)، وكونُ الاسم يفهم منه التعريف خلافُ الأصل؛ لأنَّ التعريف من معاني الحروف، والقول بتضمين الأسماء الموصولة معنى (أل) تكلف لا داعي إليه.
ومما سبق يتضح أنَّ العهد يتناول الأعلامَ والضمائرَ وأسماءَ الإشارةِ والمعرَّفَ بالنداءِ كلَّها باعتبار أصل وضعها، ثم ما أُرِيدَ به فَرْدٌ معيَّنٌ أو مبهمٌ في ظروفٍ وأحوالٍ معيَّنةٍ من الاسم الموصول والمعرف بـ(أل)، وما أضيف إلى واحد منها، وتمثل هذه العناصرَ المحيلةَ إحالةً عهديةً.
كما يتضح أنَّ القيد وضعي ثابت وهو جزءٌ من معنى المحيل أو من لفظه، والقرينة استعمالية متغيرة، وهي في الأساس أيُّ وسيلة تؤدي إلى ربط المتلقي بين المحيل والمحال إليه، وتُسْتَمَدُّ ممَّا يُذْكَرُ في الكلام أو يَحْضُرُ في المقام أو يُسْتَحْضَرُ في الذهن، وقد تكون دالَّةً على المحال إليه دلالةً مباشرةً كما لو كانت لفظًا موضوعًا له أو إشارةً إلى حاضر، أو غيرَ مباشرةٍ كما لو كانت لمجرَّدِ التذكير به، أو تُسلِمُ لقرائن أخرى، وقد يمتدُّ أثرها وراءَ مجرد الربط إلى تشكيل صورة المحال إليه في ذهن المتلقي كما يحدث مثلًا في عود الضمير على نكرة.

***




الخميس، 24 يناير 2013

هل تفيد (لن) الدعاء؟



حكى ابن السراج عن قوم إفادة لن للدعاء فقال: «وقال قوم: يجوز الدعاء بـ(لن) مثل قوله: ﴿فلن أكون ظهيرا للمجرمين﴾، وقال الشاعر:
لن تزالوا كذالكم ثمَّ لا زِلْتَ لهم خالدا خلودَ الجبال
والدعاء بـ(لن) غير معروفٍ، إنما الأصل ما ذكرنا، أنْ يجيءَ على لفظ الأمر والنهي، ولكنَّه قد تجيءُ أخبار يقصد بها الدعاء إذا دلت الحال على ذلك» [الأصول لابن السراج 2/171].
وهذا المعنى الذي حكاه ابن السراج عن قوم اختاره ابن عصفور، ورده ابن مالك في التسهيل، وأبو حيان في قوله: «ولا يكون الفعل معها دعاء خلافا لقوم، حكاه ابن السراج واختاره ابن عصفور» [ارتشاف الضرب 4/ 1644]، وكذا ابن عقيل في المساعد حيث يقول - عند قول ابن مالك «ولا يكون الفعل معها دعاء» -: «وذلك لأنه لم يستعمل من أدوات النفي في الدعاء إلا (لا) وحدها» [المساعد على تسهيل الفوائد 3/67]، ونص السلسيلي أيضا على عدم استعمال غير لا من حروف النفي في الدعاء ثم قال: «وقيل إنه معها يكون دعاء واستدل بقوله تعالى: ﴿فلن أكون ظهيرا للمجرمين﴾ وفي هذا نظر، لأن هذا خبر لا دعاء» [شفاء العليل 2/922].
كما أن ابن هشام رد هذه الدلالة في شرح قطر الندى، حيث يقول: «ولا تقع (لن) للدعاء خلافا لابن السراج، ولا حجة له فيما استدلَّ به من قوله تعالى: ﴿قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين﴾ [القصص: 17] مدعيا أن معناه فاجعلني لا أكون، لإمكان حملها على النفي المحض، ويكون ذلك معاهدةً منه لله سبحانه وتعالى ألا يظاهر مجرما جزاء لتلك النعمة التي أنعم بها عليه» [شرح قطر الندى بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ص 58].
ولا أدري ما الذي حمل ابن هشام على نسبة القول بدلالة (لن) على الدعاء إلى ابن السراج مع أن عبارته المنقولة عنه آنفا تصرح بعكس ذلك، لكنَّ العجيب أنَّ ابن هشام عاد وأثبت دلالة (لن) على الدعاء في مغني اللبيب غير ناسب إياها هذه المرة إلى ابن السراج، فقال: «وتأتي للدعاء كما أتت (لا) لذلك وِفاقًا لجماعةٍ منهم ابنُ عصفور، والحجة في قوله:
لن تزالوا كذالكم ثمَّ لا زِلْتُ لكم خالدا خلودَ الجبال
وأما قوله تعالى: ﴿قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين﴾ [القصص: 17]، فقيل: ليس منه؛ لأن فعل الدعاء لا يسند إلى المتكلم، بل إلى المخاطب أو الغائب، نحو: يا ربِّ لا عذَّبْتَ فلانًا، ونحو: لا عذَّبَ الله عمرًا (اهـ)، ويرده قوله: ثم لا زلتُ لكم خالدًا خلودَ الجبال» [مغني اللبيب بتحقيق مازن المبارك ص 282].
ورواية بيت الأعشى المذكور في ديوانه هي (لا زلتَ لهم) [انظر: ديوان الأعشى بتحقيق محمد حسين ص 13، والصبح المنير في شعر أبي بصير صنعة أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب ص13]، وعليها فلا شاهد فيها لابن هشام على إسناد فعل الدعاء إلى المتكلم، فيبقى رد معنى الدعاء في الآية الكريمة بلا معارض.
ويعلم من هذا أن ما استدل به على إفادة لن للدعاء إنما هو من قبيل الخبر، فإن فهم من الخبر الدعاء كبيت الأعشى فلقرينة خارجية كما أشار ابن السراج وليس لأن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى كما يريد القائلون بإفادتها الدعاء.
وأما إثبات دلالة لن على الدعاء بقياسها على (لا) ففيه نظر، لأن (لا) لا تفيد الدعاء إلا إذا دخلت على الفعل الماضي ولم تكرر، وذلك لإفادتها الاستقبال، والماضي لا يقبله على حاله فصرف إلى الطلب، لأن المطلوب مستقبل، أما لن فلا تدخل إلا على المضارع وهو قابل للاستقبال على حاله فلا موجب لصرفه للطلب مع لن بخصوصها، لأنها للنفي والنفي خبر، فإن دل دليل خارجي على إرادة الطلب فكغيره من الخبر الذي يراد به الإنشاء لدليل.
والله أعلم.

الأحد، 23 سبتمبر 2012

نصيحة

هذه نصيحة كنت قد كتبتها لأحد الفضلاء من طلبة العلم الشرعي، ثم رأيت أنَّها قد تنفع غيره ممن كان في مثل حاله، والله أسأل الإخلاص في القول والعمل.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
اسمعني جيدا يا أستاذ ...
حالتك هذه لا يجدي معها مجرد نصيحة عابرة ، إنها تحتاج إلى تواصل دائم؛ لذلك سأحلل معك بعض خيوط المشكلة ثم أنتظر منك أن توافيني بما يجد لك كل يوم حتى نناقشه سويا.
فأنا أرى أن من أسباب حالة الاكتئاب تعقد خيوط الأفكار واشتباكها بما يعيق حركة النفس فيشعر المرء بثقل في صدره، فإذا استطاع أن يفك هذا الاشتباك وأمكنه أن يتعامل مع كل خيط على حدة سهل عليه الخطب وبانت كل مشكلة في حجمها الطبعي وتدفقت النفس وانكشف الاكتئاب، وهذا ما أحاوله معك.
أولا- قضية سوء الاختيار:
سأفترض معك على أسوأ الأحوال أن اختيارك كان خطأ، فما الواجب تجاه ذلك؟
إذا كان ما اخترته محرما شرعا كما لو اخترت أن تد رس الموسيقى على قول من يحرمها أو أن تعمل في تجارة المخدرات فالواجب أن ترجع عن هذا الاختيار وتبحث لك عن طريق آخر، وتتحمل تبعة هذا الاختيار السيء التي تتمثل في أنك ستبدأ طريقا آخر من أوله، ما يعني أن السنوات الماضية ضاعت منك. وأنت حينئذ تستطيع أن تتحمل هذه التبعة راضيا بها لأنها أخف من تبعة الاستمرار في الطريق المحرم المتمثلة في خسارة حياتك كلها.
أما إذا كان ما اخترته مباحا شرعا أو مستحبا (وهذه أولى درجات القبول) وأنفقت فيه عدة سنوات من عمرك لا تعرف غيره، وكان تغييره الآن يحتاج منك إلى عدة سنوات أخرى، فليس من الحكمة أبدا 1- أن تندم على اختيارك حتى لو بدى لك غيره أحسن منه لسبب أو لآخر، 2- أن تفكر في تغييره لما فيه من تضييع لعمرك الغالي، 3- أن تتوقف عن السير فيه.
وإنما تقتضي الحكمة أن تنظر إلى ما فيه من خير وإيجابيات، وتعالج ما تراه من سلبيات بما في ذلك مسألة تصحيح النية.
إذن لا ينبغي أن تحاسب نفسك الآن على سوء اختيارك فيما مضى، ولكن فكر في اختيارك فيما يأتي وحاول بقدر المستطاع ألا يكون اختيارا سيئا يضيع عليك سنوات عمرك.
وقد قيل لنا قديما إذا لم تكن تعمل ما تحب فأحبَّ ما تعمل.
هذا كله على فرض أنك أسأت الاختيار مع أني واثق أنك بعد أن تجتاز هذه المحنة ستغير رأيك 180 درجة.
ثانيا- عظم الأمانة والقصور في الجانب الشرعي:
لا شك أخي الكريم أن أمانة العلم الشرعي حمل عظيم، ولكن لا تنس أيضا أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، وليس كل الناس على درجة واحدة من القدرات الذهنية حفظا وفهما وتحليلا، فليس المطلوب منك كي تؤدي حق الأمانة أن تكون كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ولكن المطلوب منك ألا تدعيَ علمَ ما لا تعلم، وألا تفتيَ بغير علم، وألا تتبع الهوى، وهي كلها أمور في متناول يدك إن شاء الله.
وأنت تقول إنك لا تتخيل نفسك متحدثا في هذا المجال، فما معنى الحديث هنا هل هو الفتيا أو شرح مسائل العلم؟
اعلم وفقك الله أن المشتغل بالفقه له وظائف ثلاث: التدريس والفتيا والقضاء، فلا عليك - إن رأيت نفسك بعد الطلب والاجتهاد تقصر عن مقام الفتيا- ألَّا تُفْتِيَ، وأن تكتفي بالتدريس الذي تشرح فيه المسائل شرحا جيدا سليما وأحسب أن هذا يسير عليك إن شاء الله، وليس هذا مما يعيبك في شيء، ثم تأمل هل كل من حصل على الدكتوراه في علوم العربية صار نحويا أو لغويا مجتهدا ، أو أن معظمنا يقوم بمقام التدريس، ويتفاوت الناس في درجة الاجتهاد وفي توقيته؟
ثالثا العمل ومتطلبات الحياة:
يمكن أن يكون هذا سببا معيقا عن البدء في الطريق، لكن التجربة تقول إنه لا يعيق عن مواصلة الطريق غالبا، قد تتأخر عامين أو ثلاثة أو أربعة، لكنك ستصل إن شاء الله، ومع علو الهمة وتنظيم الوقت يتم المراد.
أخي الكريم
إن الخوف والنوم والهروب ليس حلا للمشكلة .. بل هي أفضل الوسائل لتعقيدها.
ما ينبغي أن تقوم به الآن هو أن تنسى الأهداف البعيدة والمستقبل المجهول وتضع نصب عينيك هدفا واحدا قريبا هو الانتهاء من الماجستير ، وتحدد برنامجا زمنيا لذلك، وتعتبر كلَّ فكرة تُعِيقُك عن هذا الهدف وسوسةَ شيطانٍ يمارس وظيفته في تضييع أبناء آدم وإثنائهم عن النجاح في الدنيا والآخرة، حتى لو كانت هذه الوساوس تتعلق بالنية والخوف من الله بسبب عدم الإخلاص، تجاهل هذه الوساوس الآن وعندما تصل إلى هدفك فتجد هناك نيتَك، ولا تنس قول القائل: «طلبنا العلم لغير الله فأبى الله إلا أن يكون له».
قم وصل ركعتين وفكر في أنك إنسان مسلم تحتاجك الأمة كما تحتاج كل فرد من أفرادها، وأنك بدراستك لعلوم الشريعة تمثل ترسا في آلة الأمة الكبيرة ومهما استصغرت هذا الترس فإن انكساره من شأنه أن يعطل هذه الآلة، وأن الحصول على الماجستير والدكتوراه وسيلة مهمة من الوسائل المعاصرة لمواصلة الدرس والبحث.
سدد الله خطاك.